اتحاد الفلاسفة العرب

مشروع حضاري فكري تنويري، يهدف إلى جمع فلاسفة ومتفلسفة العالم العربي من المحيط إلى الخليج؛ لأجل تحويل الخطاب الفلسفي إلى خطاب عقلنة مجتمعاتنا التي تأخرت قرونًا عن ركب الحضارة..

الراوي ورحلته الفلسفية من بغداد إلى الإسكندرية ـ د. قاسم المحبشي I مدونة اتحاد الفلاسفة العرب


الراوي ورحلته الفلسفية من بغداد إلى الإسكندرية.
د. قاسم المحبشي[*]

   للإسكندرية سحرها الميتافيزيقي الخاص؛ فهي درة البحر الأبيض المتوسط، وتحمل اسم أعظم فاتح يوناني هو الاسكندر الأكبر الذي أنشأها عام 332 ق.م. والاسكندر هو تلميذ الفيلسوف اليوناني الشهير ارسطو طاليس (384 -322ق.م)، وهي مدينة العلم والفلسفة منذ أقدم العصور؛ إذ اكتسبت هذه الشهرة من جامعتها العريقة ومجمعها العلمي الموسيون، ومكتبتها التي تعد أول معهد أبحاث حقيقي في التاريخ، ومنارتها التي أصبحت أحد عجائب الدنيا السبع في العالم القديم. فقد أخذ علماء الإسكندرية يفكرون في طبيعة الكون وتوصلوا إلى فهم الكثير من القوى الطبيعية. ودرسوا الفيزياء والفلك والجغرافيا والهندسة والرياضيات والتاريخ الطبيعي والطب والفلسفة والأدب. ومن بين هؤلاء الأساطين إقليدس عالم الهندسة الذي تتلمذ على يديه أعظم الرياضيين مثل أرشميدس وأبولونيوس وهيروفيلوس في علم الطب والتشريح، وإراسيستراتوس في علم الجراحة، وجالينوس في الصيدلة، وإريستاكوس في علم الفلك، وإراتوستينس في علم الجغرافيا، وثيوفراستوس في علم النبات، وكليماكوس وثيوكريتوس في الشعر والأدب، فيلون وأفلاطون في الفلسفة وعشرات غيرهم أثروا الفكر الإنساني بالعالم القديم. وفي الإسكندرية ولدت وعاشت واستشهدت أعظم فيلسوفة وعالم رياضيات في التاريخ هيباتيا 370-415م تعد أول امرأة في التاريخ يلمع اسمها كعالمة رياضيات، كما لمعت في تدريس الفلسفة وعلم الفلك.
   والإسكندرية عبر تاريخها الطويل عرفت بمدينة المكتبات وأولها مكتبة الإسكندرية الملَكية أو المكتبة العظمى هي كبرى مكتبات عصرها، شيدها بطليموس الأول قبل ثلاثة وعشرين قرنًا. تحتوي المكتبة على أكثر من نصف مليون من اللفائف. وفي الإسكندرية توجد اليوم أكبر وأحدث مكتبة ورقية ورقمية في الشرق الأوسط تحوي أكثر من ثمانية مليون كتاب. فضلًا عما تنطوي عليه الإسكندرية من كنوز أثرية خالدة وآثار تاريخية شاهدة: ففي قاع بحرها متحف تاريخي يروي مغامرات شعوب البحر الأبيض المتوسط منذ أقدم العصور. كتب الشاعر الكاريبي ديريك والكوت في قصيدته (البحر تاريخ) "أين شواهدكم، معارككم، شهداؤكم؟ أين ذاكرتكم القبلية؟ أيها السادة في القبة الرمادية. البحر.. البحر قد أقفل عليها. البحر هو التاريخ" (ينظر: مايكل نورث، اكتشاف بحار العالم من العصر الفينيقي إلى الزمن الحاضر، ترجمة، عدنان عباس علي، عالم المعرفة 475، أغسطس 2019). وقبل أسابيع أعلنت وزارة الآثار المصرية عن اكتشاف كنوز أثرية في قاع بحر الإسكندرية، "وبحسب البيان، جرى الكشف عن بقايا مجموعة من الأبنية تمنح مدينة كانوب امتدادًا آخر نحو الجنوب لمسافة كيلومتر، عثر به علي بقايا ميناء ومجموعة من الأواني الفخارية من العصر الصاوي وعملات ذهبية ومعدنية، وحلي ذهبية من خواتم وأقراط، بالإضافة إلى عملات برونزية من العصر البطلمي، وعملات ذهبية من العصر البيزنطي، مما يرجح أن المدينة كانت مأهولة بالسكان في الفترة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد و عصر الإسلام" (ينظر: موقع سكاي نيوز، مصر.. اكتشاف كنوز أثرية في قاع البحر بالإسكندرية، 22 يوليو2019).
   ومن الشواهد الأثرية الباقية اليوم بالإسكندرية عمود السواري من أشهر المعالم الأثرية في الإسكندرية، وقلعة قايتباي، والمسرح الروماني، ومتحف المجوهرات الملكية، والمتحف اليوناني الروماني، ومتحف الإسكندرية القومي، ومكتبة الإسكندرية الجديدة، والمينا الشرقي، ومقابر مصطفى كامل الأثرية ومقابر الأنفوشي، وغيرها كثير. هذا فضلًا تميز الإسكندرية بمناخها المعتدل، إذ يسود بها مناخ البحر المتوسط والذي يتميز بصيفه الحار والجاف وشتائه الرطب والمعتدل والممطر، فهي مدينة شم النسيم الأثيرة عند المصريين. كل تلك الاشياء الجميلة الطبيعية والثقافية في بنيتها الكلية لا ريب وأنها تعد من الحوافز الأساسية التي حفزت طالب الدارسات العليا القادم من بغداد العريقة لطلب المعرفة الفلسفية في الإسكندرية الساحرة عبد الستار الراوي الذي هبط بها ولم يخرج منها إلا بشهادتي الماجستير والدكتورة بالفلسفة. أكمل الراوي دراسته الجامعية في جامعة بغداد عام 1967 في أوج سن الشباب 26 عامًا، ثم يمم وجه صوب أم الدنيا مصر العظيمة ونال دبلوم التخصص العالي في الدراسات الآسيوية من معهد الدراسات الإسلامية العليا في القاهرة عام 1968، ودبلوم آخر في الدراسات الأفريقية من المعهد ذاته سنة 1970، كما حصل على ماجستير فلسفة بامتياز من جامعة الاسكندرية سنة 1974، ومن الجامعة نفسها حاز على دكتوراه في الفلسفة الإسلامية بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى. هناك في حورية الأطلسي وموطن هيباتيا فيلسوفة الإسكندرية الشهيدة، طاب له المقام وجاء في جوابه عن سؤال تجربته الدراسية في مصر والإسكندرية متذكرًا تلك الأيام وما بعدها "أحببت مصر منذ صغري وأمضيت في ربوعها أجمل سنوات حياتي، وأقمت فيها عشرة أعوام (1967ـ 1977)، كنت أدرس في معهد الدراسات الإسلامية العليا بالقاهرة، وفي الوقت عينه، أواصل تعليمي في جامعة الإسكندرية، وكنت أقيم ما بين القاهرة والإسكندرية، لي صحبة طيبة مع مجموعة من الأصدقاء وأولهم إدموند إيليا، الدكتور أحمد عبد الحليم، الدكتور ماهر عبد القادر، هاني المرعشي، الدكتور محمد محمد قاسم، الدكتورة راوية عبدالمنعم، وماتزال هذه الرفقة قائمة حتى اليوم بعد مضي نصف قرن من الزمان، وكان أستاذي الدكتور ياسين خليل قد عزز رغبتي على مواصلة دراستي العليا وكتب توصية علمية بذلك، وكذلك أستاذي وصديقي الدكتور كامل مصطفى الشيبي خير عون لي طوال دراستي العليا، وقد لقيت أثناء دراستي مؤازرة علمية من عميد الآداب الأستاذ الدكتور عبد المعز نصر، ومن الأستاذ الدكتور على سامي النشار رئيس قسم الفلسفة في آداب الإسكندرية، وقد درست عليه فصلًا دراسيًا كاملًا، لأواصل دراستي تحت إشراف فيلسوف الاسكندرية الدكتور محمد على أبو ريان، حيث أنجزت رسالة الماجستير 1974 بدرجة ممتاز، وحزت في الدكتوراه 1977 على الامتياز مع مرتبة الشرف الأولى ـ وأتمتع بعضوية الجمعية الفلسفية المصرية ـ وعضوية مجلة (أوراق فلسفية) برئاسة الصديق الدكتور أحمد عبدالحليم" (ينظر: إيمان البستاني، ضيف إيلاف، البروفيسور، عبدالستار الراوي،2 نوفمبر2017).
   من الواضح أن أثر مصر عامة والإسكندرية وجامعتها في حياة الراوي كان حاسمًا؛ إذ وجد فيها ما يشبع نهمه للمعرفة الفلسفية، وبها اشتد عوده الفكري ونضج عقله النقدي ورهف حسه الجمالي ووضع قدميه على طريق الألف ميل في درب الإبداع الفلسفي والآداب حتى بات اليوم من أبرز أعلام الفكري الفلسفي العراقي والعربي عامة بشهادة كبار الفلاسفة والمثقفين العرب.
   كل هذا المؤثرات الثقافية والروافد الفكرية التي تأثر بها الفيلسوف عبد الستار الراوي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وبدرجات مختلفة من القوة والضعف، كانت بالإضافة إلى الوسط الثقافي المحلي الذي نشأ وترعرع وفكر وعاش فيه، في مدينة بغداد فضلًا عن الرحلة العلمية الأكاديمية الطويلة التي أمضاها في مصر والاسكندرية بالذات وما أتاحته له تلك الرحلة من فرص وممكنات باذخة الإلهام والتحفير والخلق، فضلًا عن مواهبه الذاتية صيرته مثقفًا موسوعيًا عربيًا وعالميًا؛ إذ إنه كان يجيد عددًا من اللغات.. "الإنجليزية والفارسية والعربية" هذه المؤثرات التي يصعب الفصل بين مكوناتها، كانت تتفاعل وتتداخل وتتمازج في وعي وضمير الراوي وتشكل شخصيته المتميزة في سياق الحياة الواقعية المشخصة، ومن ثم صعب فهم الفكر "الراوي" من دون الأخذ بكامل السياق التاريخي الذي ظهر فيه، إذ أن السياق كما يرى "جاك دريدا" هو كامل الوسط الذي يظهر فيه نص ما والذي لا يتشكل من وضعية ثقافية أو اجتماعية وسياسية فحسب، وإنما من مجموع النصوص والعلامات المتحركة حوله ووراءه.


[*] أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة بجامعة عدن
الراوي ورحلته الفلسفية من بغداد إلى الإسكندرية ـ د. قاسم المحبشي I مدونة اتحاد الفلاسفة العرب الراوي ورحلته الفلسفية من بغداد إلى الإسكندرية ـ د. قاسم المحبشي I مدونة اتحاد الفلاسفة العرب Reviewed by Union of Arab Philosophers on 2:02 ص Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

عن مؤسس المدونة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

انضم إلي صفحتنا عبر الفيس بوك

https://www.facebook.com/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-729058127473555/?modal=admin_todo_tour

اخر المواضيع

اعلان 728x90

يتم التشغيل بواسطة Blogger.