اتحاد الفلاسفة العرب

مشروع حضاري فكري تنويري، يهدف إلى جمع فلاسفة ومتفلسفة العالم العربي من المحيط إلى الخليج؛ لأجل تحويل الخطاب الفلسفي إلى خطاب عقلنة مجتمعاتنا التي تأخرت قرونًا عن ركب الحضارة..

د. قاسم المحبشي يكتب: مدني صالح الذي لم نعرفه بعد!


مدني صالح الذي لم نعرفه بعد!
قاسم المحبشي[*]

(ولكم يجهل الناس ما يعرفون، وهل أنت، إلا الذي جهلوه)
   البارحة أكملت كتابة مقالي عن أستاذي الراحل مدني صالح لنشره في مجلة الثقافة الجديدة في ملف خاص عن سقراط بغداد بالذكرى الثانية عشر لرحيله.
إليكم مقتطف من المقال الطويل
   من المؤسف أن فيلسوفًا بحجم ومكانة الراحل مدني صالح ليس لديه سيرة ذاتية كاملة تروي قصة حياته وسياقاتها الاجتماعية والتعليمية والثقافية والفكرية منذ ميلاده وحتى وفاته. وحينما بحثت في الشبكة العنكبوتية عن سيرة حياة الأستاذ وجدت شذرات متفرقة عند من كتبوا عن الأستاذ مدني. كتبت في جوجل (سيرة حياة مدني صالح) وطلع لي في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا) اسمي موظف حكومي من تونس وشاعر من السودان ولم أجد شيئًا عن أستاذنا الراحل الجدير بالأهمية والقيمة والاعتبار لروحه السلام. وتلك مهمتنا نحن تلاميذه لنوفيه بعض حقه من الفضل والوفاء. وأتمنى على الزملاء الأعزاء والزميلات العزيزات في العراق أن يجمعوا سيرة حياة أستاذنا في كتاب جدير به وبنا وأنا على استعداد للتعاون معهم فيما يمكنني عمله.
   لقد كنت أعتقد أنني أعرف الأستاذ مدني حق المعرفة، قبل أن أبدأ بكتابة هذا المقال، وحينما كتبت مبحث (سيرة حياة مدني صالح) وجدت نفسي في حيرة من أمري، إذ لم تكن بحوزتي معلومات كافية عن حياته وكل ما لدي مجرد ذكريات من السنوات القليلة التي كنتها معه في قسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة بغداد، فضلًا عما بقي بالذاكرة من قراءاتي للكتب والمسودات التي أهداني إياها وهي ليست بحوزتي الآن. مما اضطرني للبحث عنها في الكتابات التي كتبت عنه والمنشورة في الانترنت. ومعظمها لا تحتوي على سيرة دقيقة ومرتبة لحياته الجديرة بالتوثيق والنشر بكل تفاصيلها. وبإزاء هذا الجهل المعيب بسيرة حياة أستاذنا الراحل تسألت: من أي الأبواب ينفتح الحضور عن الغياب، من أي النوافذ يمكن لنا أن نطل على ذكر رحيل فيلسوف العراق العظيم، مدني صالح الذي جعل من جسده النحيل شعلة دائمة التوهج والإشعاع في حلكة الظلام العربي الوبيل؟ ثمة ملمح أسطوري في حضرة غياب الراحل المضيء مدني الذي أسر القلوب والأذهان بسيل دافق من النور والجمال العصي عن النسيان والأهمام في ليل التاريخ والزمان. فإذا كان المرء يموت حينما يكف الناس عند تذكره! فها هو سقراط بغداد يحلق بعد اثنا عشر عام من الرحيل في كل فضاءات الفكر والأدب المتسامية.
   حينما ولد الطفل مدني في ليلة هيتية باردة بمحلة (القلعة) عام 1932م على ضفاف نهر الفرات لم يكن يعلم ما كان يخبئه له القدر، ولم يكن يعلم بميلاده أحد غير والديه وذويه، ولكنه أبى أن تمر حياته في هذه الأرض مرور الكرام وأن يموت كما ولد في عالم النسيان، بل جعل من فرصة وجوده رمزًا فكريًا وثقافيًا عربيًا خالدًا. نشأ وترعرع في كنف عائلة هيتية كريمة ومحافظة دينيًا، تلقى تعليمه التمهيدي عند (الملا) الذي كان يعلم التلاميذ أساسيات القراءة والكتابة والحساب كعادة أبناء المدينة فـي ذلك الزمن، ثم انتقل إلى المدرسة الابتدائية في ذات المدينة. بعد أن أكمل الابتدائية بتفوق تطلع إلى الالتحاق بالمرحلة الثانوية، وبسبب عدم وجود مدرسـة ثانوية في هيت، ولأنه يحب العلم والتعلم أكثر مما يجب، حزم أمره وحمل حقيبته، ورحل إلى حيث يستطيع الوصـول، فحط الرحال في مدينة الرمادي - مركز لواء الدليم - ولا ندري هل هو حظه أم حظهما حين درس العربية على أستاذه الشاعر عبد الوهاب البياتي واللغة الإنجليزية - كما يسميها - على أستاذه، الشاعر بدر شاكر السياب، فبعد أن عرفهما وتعرف عليهما عن قرب ازداد حبًا للشعر الذي كان يقرضه في تلك السنوات، وتعلق أكثر بالقراءة الأدبية، وسعى إلى التفوق، فكان له ما أراد، فنجح مدني صالح، وكان لا بد له أن يرحل إلى حيث الطموح الأكبر ـ إلى حيث عاصمة العلوم والآداب مدى التاريخ والعصور. فنزل مدني صالح إلى مدينة الرشـيد وفيها دخل بوابة جامعــة بغداد عبر كلية الآداب والعلوم ليجلس طالبًا للفلسفة بكلية آداب جامعة بغداد الدفعة الأولى من طلاب قسم الفلسفة، وحصل على البكالوريوس بتقدير ممتاز والأول على دفعته، وتسلم جائزته من أمين العاصمة بغداد في احتفا ل رسمي مع خريجي الكليات الأخرى.
   انتقل من دار الإذاعة عام 1953م وعاد إلى مدينته مدرسًا، ولم يدرس موضوعًا محددًا أو منهجًا مقررًا، فدرس كل ما طلب منه تدريسه، وفــي متوسطة هيت تعلم على يديه الكثير من الطلبة الذين تخصصوا فيما بعد بشتى العلــــــوم. (ينظر، قحطان محمد صالح الهيتي: مدني صالح سيرة وذكريات موقع الناقد العراقي، 4-3-2015).
   في معرض حديثه عن نتاجاته الأدبية يقول الأستاذ مدني: "بأنه بدأ بكتابة المقالة عام 1949م في جريدة الأهالي واليقظة والسجل، ويقول بأنني بدأت بكتابة الدراسة والبحث منذ العام 1952م، وأول مقالة أدبية كتبتها نشرت بعنوان (الاستقطاب الاجتماعي في مجلة المعلم الجديد)، وأخرى بعنوان (الفكرة المولدة في أشعار بدر شاكر السياب) نشرت في مجلة الآداب البيروتية عام 1967م، ومقالة عن البياتي بعنوان (البياتي والخيام وحانة الأقدار) في شباط 1969م. بعد ذلك بنشر المقالات الأخرى في الصحف العراقية، وعندها بدأت أسلوبيته تتكامل مع طلائع الأسلوبية المعاصرة والتي لم تكن كذلك إلا في الذي بدأ يظهر من إنشاءه المتميز بعد عام 1982م في جريدة الجمهورية وعلى الصفحة الثقافية بالذات (ينظر: سبتي الهيتي سبعة أعوام على رحيل المفكر، موقع جريدة الزمان، 26 يوليو 2015م).
   أكمل مدني دراسته العليا في الماجستير والدكتوراه في جامعة كامبريدج في بريطانيا، وعمل أستاذًا للفلسفة في كلية الآداب بجامعة بغداد منذ ستينات القرن الماضي. وأصدر العديد من المؤلفات التي اهتمت بالفلسفة الاسلامية، والوجودية؛ القديمة منها والحديثة، ومن مؤلفاته: “الوجود” عام 1955م، و ”أشكال وألوان” عام 1956م، و ”مقامات مدني صالح” عام 1989م، و "الغزالي ومناهج الارتقاء"، و "هذا هو الفارابي"، و "التربيع والتدوير"، و "ابن طفيل قضايا ومواقف"، و "بعد خراب الفلسفة"، و "قرندل وحقوق الحمار".. فضلًا عن كتاباته حول المسرح والتحليل النقدي، وإصداراته الأدبية والنقدية المميزة، وفي مقدمتها “هذا هو السياب” و ”هذا هو البياتي”. وكان طوال حياته الإنتاجية اسمًا بارزًا في المجلات والدوريات المتخصصة والصحف اليومية.
   للأستاذ مدني ولدين، طبيب صيدلي، ومهندسة.. وقد توفي عن عمر ناهز 73 عامًا بتاريخ 20/7/2007م. ألف رحمة ونور تغشاه.

 أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة  ـ جامعة عدن[*] 
د. قاسم المحبشي يكتب: مدني صالح الذي لم نعرفه بعد! د. قاسم المحبشي يكتب: مدني صالح الذي لم نعرفه بعد! Reviewed by Union of Arab Philosophers on 1:54 ص Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

عن مؤسس المدونة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

انضم إلي صفحتنا عبر الفيس بوك

https://www.facebook.com/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-729058127473555/?modal=admin_todo_tour

اخر المواضيع

اعلان 728x90

يتم التشغيل بواسطة Blogger.