كيف شوهت التكنولوجيا معالم الريف؟
في حوار مع أستاذ الفلسفة محمد أفليحي
حاوره: كريم الحدادي- عضو اتحاد الفلاسفة العرب
ينحدر محمد أفليحي من
مدينة وادي زم. إحدى المدن العريقة والفريدة من نوعها في المغرب. وقد تعرفت عليه
في الرباط، بالحي الجامعي، حيث كان يدرس الفلسفة في جامعة محمد الخامس بالرباط. ولطالما
حظيت بالحديث معه أحيانًا كثيرة، إلى جانب مجموعة من الزملاء، طلبة الفلسفة وعلم
الاجتماع.
إن
محمد أفليحي يجسد مهمة الفيلسوف الحقيقي، الذي يعيش وفقًا لنظام مُحكم، لا يؤمن بـ
"التفاهة" أو "اللامبالاة". إنه يؤمن بضرورة الاستعداد
للأخطار الأخلاقية والمصائب الاجتماعية وعدم الاستسلام لها، خصوصًا في عالم القرن
الحادي والعشرين. سألنا محمد أو "اسبينوزا" كما يلقبه زملاؤه، عن دور
الفلسفة في عصرنا هذا، في عقلنة الوجود الإنساني وضمان خصوصية فردية مستقلة وحرة
في ظل هيمنة التقنية (في إطار ما يسمى بالعولمة)، خصوصًا وسائل التواصل التي أضحت
تشكل مهدًا للتفاهة واللامعقول... العبث؟ كيف تأثر الريف والمدينة بهذه التحولات
"اللحظية" السريعة؟
"إن من تربى في عالم واقعي تافه سيسعى إلى
بناء عالم افتراضي ملئ بالأشخاص التافهين مثله" يقول محمد
"اسبينوزا". الذي قبل أن نجري معه هذا الحوار الشيق. حيث يجيبنا على
أسئلة شائكة وينيرنا بمعرفته الواسعة حول ثلة من القضايا الراهنة.
"إن اللبيب من الإشارة يفهم."
نبذة عن
الأستاذ محمد افليحي:
ولد محمد
افليحي بمدينة وادي زم - إقليم خريبكة - سنة 1994، تخرج في كلية الآداب والعلوم
الإنسانية بالرباط، حيث حصل على دبلوم الإجازة في الفلسفة سنة 2017، والآن يتابع
دراسته بسلك الماستر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، ويعمل حاليا كأستاذ
للفلسفة بمدينة وادي زم.
كريم- يلقبك
زملاؤك بـ"سبينوزا". ما السر وراء ذلك؟
في الحقيقة
يمكن القول بأن هذا اللقب (سبينوزا) ظل لصيقًا بي منذ الوهلة الأولى التي شرعت فيها
بالعمل على بحث التخرج الخاص بي لنيل دبلوم الإجازة في الفلسفة بكلية الآداب
والعلوم الإنسانية بالرباط، والذي كان تحت عنوان: "مفهوم وحدة الوجود عند
سبينوزا"، وذلك نظرًا لحديثي الدائم والمتكرر عن هذا الفيلسوف، وتأثري
بأفكاره ونسقه الفلسفي بشكل عام، مما دفع بعض الأصدقاء إلى أن يلقبونني باسمه، فهو
الفيلسوف الوحيد الذي جعلني أعيد النظر في ذاتي وأفكاري، وفي كل الأشياء التي تحيط
بي، ولذلك فقد كان لقائي به لقاءً استثنائيًا ولا يزال إلى حدود الساعة أعظم لقاء
من بين اللقاءات الفلسفية الأخرى التي كانت لي مع بعض الفلاسفة.
كريم- ماذا
يمثل الريف بالنسبة لـمحمد "اسبينوزا" ؟
عندما نتحدث
عن الريف يجب أن نتساءل قبل كل شيء عن أي ريف نتحدث؟ هل نتحدث عن الريف الذي كان
منذ الأزل، أم نتحدث عن الريف الذي دخله التمدن؟، لأن هناك فرق شاسع بينهما، فإذا
كنت تقصد الريف بالمعنى الأول؛ فإن الجنس البشري في هذا النوع الأخير كان يعيش
حياة في غاية البساطة، حيث كان يعيش على الرعي والزراعة، ويتشبث بقيم وأخلاق
أسلافه، ولم يكن يتوفر على أي وسيلة من وسائل التقنية وشبكات التزود بالماء
والكهرباء، ولا على مدارس أو إعداديات أو ثانويات بالمعنى الحالي، فكل ما كان
يتوفر عليه هو بعض الآبار والمساجد لتعليم الأطفال، والقنديل أو الشمع. أما إذا
كنت تقصد الريف بالمعنى الثاني (أي الريف المتمدن) الذي أصبح اليوم يتوفر على كل
هذه الوسائل، فإن الأمر سيختلف، لأن كل العادات والتقاليد والقيم الأخلاقية سوف
تتغير، إذ أننا سوف نجد أن التقنية هي أول وسيلة ستحدث هذا التغير وستجعل معظم
القاطنين بهذا المكان يفكرون بالنزوح إلى المدينة والبحث عن عالم جديد يشبه
العوالم التي يشاهدونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعبر شاشات التليفزيون، إلا
أنهم في بحثهم وسعيهم هذا فقدوا ثقافتهم؛ وكمثال على ذلك: الشخصية الملقبة بمي
نعيمة التي أحدثت انزياحًا أخلاقيًا خطيرًا في عملية الانتقال هاته التي تحدثنا
عنها.
كريم- يعيش
العالم اليوم تحولًا عميقًا على جميع المستويات. ما مدى تأثير ذلك على العلاقات
الاجتماعية؟
نعم صحيح،
لكن نحن نعيش تحولًا بالمعنى السلبي لا بالمعنى الإيجابي، لأن مجتمعنا مجرد مجتمع
استهلاكي غير منتج، فعوض أن نستغل هذه الوسائل التقنية من أجل تطوير ذواتنا في
مختلف المجالات العلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فقد اتجهنا عكس ذلك نحو نشر
التفاهة والانزياح الأخلاقي والجهل، مما أثر سلبًا على العلاقات الاجتماعية التي
أصبحت هي الأخرى قائمة على النفاق والكذب، وتمجيد المصلحة الخاصة على العامة، ونبذ
كل الأشكال المؤدية للحوار والنقاش داخل الجماعة، وبالتالي تمجيد الانطواء والعزلة
وانتشار العنف.
كريم- تحتل شبكات
التواصل الاجتماعي في عالمنا المعاصر مكانة كبيرة. كيف أمضيت الساعات التي توقف
خلالها "فايسبوك" عن العمل؟
تلعب وسائل التواصل الاجتماعي اليوم كما جاء
على لسانكم دورًا أساسيًا في حياة الإنسان، بل يمكننا أن نقول عنها؛ أنها أصبحت
تشكل جوهر أو ماهية الإنسان، وذلك على اعتبار أن هذا الأخير لم يعد بالتعريف
الأرسطي كائنًا اجتماعيًا، وإنما أضحى كائنًا تقنويًا (نسبة إلى التقنية)، له
القدرة على العيش متوحدًا، منطويًا، ومنعزلًا لساعات طويلة عن أي حوار أو نقاش
داخل الجماعة.
أما بالنسبة لي فمسألة انقطاع وسائل التواصل
الاجتماعي (فيسبوك) لا تشكل أي عائق في حياتي اليومية، فهي لا تعدو أن تكون مجرد
وسيلة جزئية للتواصل ولتبادل التحايا والأفكار والمعرفة مع بعض الأصدقاء، وحتى
وإن انقطعت هذه الوسيلة فهناك وسائل أخرى أفضل منها بكثير للبحث والتنقيب عن
المعرفة؛ كالكتب الورقية، والكتب الإلكترونية، ومواقع أخرى على هواتفنا أو حواسبنا
الخاصة. لذا فليس من الضروري لي ولمن يشتغل في مجال معرفي معين أن يكون على
اتصال دائم بهذه الوسائل الاجتماعية التي تعد بالنسبة لعامة الناس الذين يمجدون
التفاهة ركيزة أساسية في حياتهم اليومية.
كريم- يبدو
أن بعض الفئات الاجتماعية أدمنت مواقع التواصل. كيف تصف هذا التعلق الميكانيكي
بالعالم الافتراضي؟ وما هي أبرز أسبابه؟ هل يمكن الحديث هنا عن "فراغ
روحاني"؟
تعلق الناس
بالعالم الافتراضي ليس مرتبطًا بفراغ روحي، لأن هذا الجانب يتكفل به الدين الذي
يجعل المرء دائمًا يحس بالراحة والاطمئنان والتصالح مع ذاته، وإنما هو مرتبط بفراغ
معرفي ومادي بالدرجة الأولى، فمعظم الناس اليوم وخاصة في المجتمعات العربية تعيش
حالة من الفقر والهشاشة والأمية، وهذا الأمر سيدفعهم إلى خلق عالم افتراضي يواسيهم
ويخفف من آلامهم وعبئهم الثقيل الذي يحملون وسط هذا العالم الواقعي القاسي والكئيب
الذي يعيشون فيه بدون أية آمال تجعلهم يتشبثون به، وبدون أية أدوات معرفية تجعلهم
يفكرون أو يعيدون التفكير فيه وفي ما يحيط بهم.
كريم- لاحظنا
مؤخرًا تسرب هذا الفيروس - شبكات التواصل - إلى الريف، مما قد يفقده بعض خصوصياته.
إلى أي حد يمكن القول أن الريف على حافة "المسخ"؟
تسرب التقنية
إلى الريف كما قلت سابقًا سوف يجعل جل القيم الأخلاقية تندثر شيئًا فشيئًا، فبعد
أن كانت كلمات: الحب، الجنس، العلاقات... إلخ، بمثابة طابو لا يسمح بتداولها أمام
الأسرة أو المجتمع نظرًا للحياء السائد وسط هذه البوادي والقرى، أضحت الآن بعد
هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي (واتساب، فيسبوك...) على هذه المناطق شيئًا مباحًا
يدل على التقدم والرقي الاجتماعي، بل أكثر من ذلك فقد لاحظنا غياب سلطة الأسرة
والمجتمع اللذان أصبحا من الممجدين لهذا النظام التافه ومن المستمتعين بمشاهدته
والاستماع إليه.
كريم- على مواقع التواصل، الكل يعرف اليوم
المرأة البدوية الملقبة بـ" أمي
نعيمة" التي تركت الريف من أجل الإقامة بشقة في المدينة، بعد تحسن وضعها
المادي. هل لا يعيش في الريف سوى الفقراء؟
الفقر لا يرتبط بالريف فقط، بل بالمدينة أيضًا،
حتى أنه يمكننا أن نقول أن أناس الريف أكثر غنى من أناس المدينة، وذلك نظرًا
للأراضي الزراعية الشاسعة وللأغنام والأبقار والماعز وغيرها التي تركها لهم
أجدادهم من أجل بيعها أو الاستفادة من خيراتها. ولذلك فالسبب الرئيسي وراء إدمان
هؤلاء على مواقع التواصل الاجتماعي لا يكمن في الفقر فقط، وإنما أيضًا في انتشار
الجهل وسيادة نظام التفاهة في العالم، حيث لم تعد للمعرفة الفكرية أية قيمة أمام
هذا التيار الجارف الذي أصبح يدور في فلكه معظم الناس ويمجدون ما يحتوي عليه من
تفاهة وانزياح أخلاقي نحو ما يسمونه بالحرية، التي هي في الأصل مجرد وهم ناجم عن الجهل
وعدم سيادة نظام تعليمي جيد يجعلهم يميزون بين الأشياء الحسنة والأشياء القبيحة.
كريم- هل
يمكن أن نتصور مستقبلًا، في ظل هذا التطور التكنولوجي السريع وعملية عولمة العالم،
نطاقًا جغرافيًا يحتفظ بخصوصياته الثقافية والأخلاقية الأصيلة؟ أم أننا على وشك
انهيار أخلاقي عالمي؟
أكيد أننا
نعيش اليوم انهيارًا أخلاقيًا خطيرًا وبالخصوص في المجتمعات العربية التي هي غير
قادرة على مقاومة ومجابهة هذه السيطرة الفائقة للتقنية على جميع مناحي الوجود
الإنساني، كما أنها غير قادرة على أن تملك معرفة كافية بها لاستغلالها على أكمل
وجه ممكن في هذه المناحي المختلفة من الحياة، فهي مجتمعات أصابها الوهن فلم تجد أي
ملجأ لها سوى أن تسعى لأن نشر التفاهة وتمجدها. لكن بالمقابل لا يمكن أن نتحدث عن
انهيار أخلاقي كامل للمجتمعات الغربية، لأن هذه الأخيرة تملك معرفة ووعيًا كافيًا
تتعامل به مع هذه الوسائل.
كريم- ما هي
مهمة الفلسفة في عالم يفتقر إلى الخصوصية؟
هذا السؤال أصبح سؤالا ملحًا، بل قد نجازف
ونقول: أنه أضحى السؤال المركزي للمشتغلين بالفلسفة اليوم، فلم تعد مهمة الفلاسفة
والمشتغلين بالفلسفة مجرد إنتاج الأفكار وإسداء النصائح من دون المساهمة في إغناء
النقاش العمومي، ولذلك فنحن نرى اليوم أن بعض المشتغلين بالفلسفة وخاصة بالمغرب قد
أصبحوا على وعي تام بهذه المهمة الجديدة، حيث نجد أن أغلب الكليات قد اتخذت لنفسها
مسارًا مغايرًا لما كانت عليه في السابق في تدريس مادة الفلسفة؛ مثل: تعويض فلسفة
الشرق، الميتافيزيقا، الفلسفة الحديثة، الفلسفة المعاصرة، بفلسفة القانون، أو فلسفة
التربية، أو فلسفة المدينة، فكل هذه العناوين الخاصة بالوحدات نلمس فيها هذه
المهمة وهذا التوجه الجديد الذي تلمحون إليه.
وبالعودة إلى سؤالكم، فمهمة الفلسفة اليوم في
ظل هذا العالم الافتراضي المتاح للجميع لا تكمن في تقديم حلول أو وصفات سحرية لهذا
الفيروس التقني المتفشي داخل المجتمع، بل إن مهمة الفلسفة هي أن تساعدنا على إعادة
التفكير في هذا العالم الافتراضي، وذلك عن طريق نقد نظام التفاهة الذي يسود فيه
والذي هو ناتج بالدرجة الأولى عن انعدام الوعي الذاتي الذي لا يمكن أن يكون له
وجود فعلي وواقعي داخل المجتمع من دون الاهتمام بمسألة التعليم، لأن هذا الأخير بمثابة
المعبر الأساسي للحفاظ على نظام وخصوصية العالم الواقعي، إذ كيف لمجتمع يحكم أغلب
أفراده الجهل أن يحافظ على خصوصية عالمه الواقعي وهو لم يتربى ويتعلم منذ طفولته
إلا على التفاهة؟
إن من تربى في عالم واقعي تافه سيسعى إلى
بناء عالم افتراضي ملئ بالأشخاص التافهين مثله، والكل سوف يصفق لتفاهة محتواه،
لأنهم لم يتعلموا في عالمهم الواقعي سوى التفاهة.
ليست هناك تعليقات: