حوار فكري حول كورونا
محمد جديدي ـ محمد عرفات حجازي
-
بدايةً، نودّ الترحيب بكم أستاذنا الفاضل، ونُعرِّفكم إلى القارئ..
محمد
جديدي، أستاذ جامعي وباحث بقسم الفلسفة، جامعة قسنطينة 2، الجزائر، أهتم بالفلسفة
المعاصرة (الأمريكية خاصة) والبيوإتيقا والترجمة.
- إلى أيّ مدى نجحت بلادكم في تنظيم مواردها بشكل
مُفيد لمُكافحة الوباء وإدارة التداعيات المُتوقّعة وغير المُتوقّعة على أفضل وجه؟
وما هي أوجه القصور؟
تعرف
بلادنا محدودية تجهيزاتها الطبية وقلّة معداتها لمواجهة الوباء لو انتشر بشكل كبير،
والسلطات تقرّ بنقص في أجهزة التنفس الاصطناعي وعدد الأسرِّة؛ ولذا سعت إلى اتباع
استراتيجية الوقاية مستفيدةً من نموذجين حيين هما الصين وإيطاليا، لأنّه حتى وإن
كانت المستشفيات مُجهّزة بما يجب من وسائل طبية وعقاقير فإنّ تسيير الوضعية في حال
ما إذا انتشر الوباء يكون صعبًا وصعبًا للغاية.
لذا
فالحكمة تقتضي استباق حدوث الكارثة ولا يكون هذا إلا بالوقاية وتوفير وسائل
الحماية للمواطنين وخاصة للأطقم الطبية من كمامات وأدوات التعقيم وغيرها من
الوسائل التي اشتكى السكان من ندرتها وتضاعف أثمانها مع بدايات شهر مارس عندما
بدأت الحكومة باتخاذ تدابير واحتياطات ضد الوباء.
ضف إلى
ذلك أنّ إجراء الحجر والتباعد وتعليق الدراسة بالمؤسسات التربوية والجامعات والغلق
الجزئي والمؤقت لبعض الأسواق والمتاجر الكبيرة وبيوت العبادة والملاعب يدخل في
اعتقادي ضمن حسن تسيير الأزمة التي أحدها فيروس كورونا.
- هل
عجّلت الجائحة بإنهاء دور رجال الدين وأصحاب القداسة والفنانين وغيرهم وأنهت
مهامهم في حياة الناس وأغلقت باب رزقهم؟
الصوت
الذي يجب أن يسمع وتكون له السلطة العليا هو صوت الأخصائيين من أطباء وخبراء
ومهنيي الصحة أما غيرهم من العائلات الروحية والفنية والفكرية فدورهم يكمن في بعث
رسائل مطمئنة للساكنة ومحاولة تهدئتهم وتوعيتهم بضرورة اتّباع نصائح وتدابير
الوقاية التي يرشد إليها الأطباء.
- كيف
تقرأ نداء المؤذن: "صلوا في رحالكم.. صلوا في بيوتكم"؟
أنظر
إليه من باب الوقاية والاحتياط والحدّ من انتشار الوباء وحفاظًا على الأرواح. ولا
يخفى أنّ حفظ النفس مقصد من مقاصد الشريعة. وليس من المعقول أنّ تظلّ بيوت العبادة
مفتوحة في ظلّ خطر حقيقي داهم يفتك بالناس ولا علاج له إلا بالوقاية لأنّ العلاج
أصلّا غير متوفر.
- جسّد
الأطباء حول العالم النموذج والمثال الإنساني، وذلك في مقابل تخبُّط الخطاب
الإعلامي، كمثال؛ فما السبيل إلى أخلاق مهنية مُلزمة وصارمة؟
ربمّا
من بين الأخلاقيات المُتعدّدة المُلازمة لممارسة مهن وحرف تأتي الممارسة الطبية
على رأسها من حيث أقدمية أخلاقها؛ إذ ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد مع قسم
أبقراط الشهير، لكنها مع مرور الوقت لم تعد كافية؛ لأنّ مفهوم الطب تطوّر وتطوّرت
معه العلوم الطبية والتقنيات التي باتت تتدخل بها في عملها، ناهيك عن البحث الطبي
الذي يستدعي استحضار وتفعيل قيم ومبادئ في ظلّ ما جادت به تشريعات الإنسان المعاصر
من حقوق وضمانات لكرامته وحريته. وعلى
الرغم مما أضيف إلى مجال الطب المعاصر من قوانين تلزم الطبيب والمهني في الصحة
بضرورة التقيّد لا بما يمليه عليه الضمير والديونتولوجيا الطبية بل أيضا المسؤولية
الاجتماعية والإنسانية وفي هذه القوانين (البيوإتيقية) التي برزت إلى الوجود في
منتصف تسعينيات القرن الماضي وهي تراجع من حين لآخر كي تتماشى مع مستجدات البحوث
والتجارب الطبية وفيها تبرز الصرامة.
- إلى
أيّ مدى يمكن اعتبار "كورونا" ـ الوباء المُصنّع ضربة قاضية للعلم
وتقنياته بعد أن كانت المعرفة وسيلة الإنسان للسيطرة على الطبيعة؟
صحيح
مع العصور الحديثة وحتى في اللحظات التاريخية اليونانية بل وقبلها عدت المعرفة
أداة الإنسان لقهر الطبيعة وتسيّدها وتفاقم هذا التصور مع عصر النهضة الأوربي، وفي
اعتقادي أنّه تصور خاطئ؛ لأنّه انبثق من منطلق أنّ الإنسان في صراع مع الطبيعة
وعليه أن يجبرها ويخضعها لهيمنته، ونسي أنّه هو نفسه كائن طبيعي فازدادت الفجوة
بينه وبين الطبيعة تبعّا لهذا التصور اللا مسؤول وهو ما تدفع البشرية ثمنه
اليوم.
إنّها
المعرفة التي يمكن أن تقضي على الإنسان، فكما أنّ الجهل يؤدي بصاحبه إلى الهلاك
كذلك المعرفة إن لم يرافقها حسن استعمال بمثل ما يكون ذلك في الدواء فلكلّ نوع منه
نجد طريقة ترشدنا إلى استعماله. المعرفة أداة الإنسان في التغلّب على مشكلاته
المتعددة، وإذا كانت تعني نوعًا من التحكّم في مجال من المجالات المتنوعة الصحية
والطبية والبيئية والسياسية والاجتماعية ...إلخ فإنّها أيضًا بحاجة إلى تحكّم آخر
أو إن شئنا تحكّمًا في التحكّم حتى لا تصبح مصدر خطر وتهديد للإنسان وبيئته كما هو
الشأن مع جائحة كورونا.
- كيف
ترى مستقبل العملية التعليمية والبحث العلمي؟
بصورة
عامة سيعرف البحث العلمي ازدهارًا وانتشارًا كبيرين فيما يخصّ العلوم البيوطبية
والبيوتكنولوجية وكلّ التقانة المرتبطة بتكنولوجيا النانو والمعلوماتية والذكاء
الاصطناعي والروبوتيك بحيث ستنتعش أكثر من مجالات العلوم الأخرى، أمّا علوم
الإنسان فتشهد تراجعًا وتفقد كثيرًا من منزلتها المتدهورة أصلًا في سلّم المعرفة،
وربما الجانب القيمي والأخلاقي هو وحده من يعرف اعتناءً ونموًّا بالنسبة للبحث في
الإنسانيات.
- ما
الذي يمكن أن نخرج به من العزل الصحي: الخوف ومزيد من العزلة، أم تطوير العلاقات
تجاه الإنسانية الحقيقية؟
أتصور
أنّ الرُّعب وليس الخوف فقط، الذي بثّته جائحة كورونا غيّر من سلوكيات الإنسان
تجاه غيره من البشر وقلبت لديه مفاهيم الاتصال والتواصل من التقارب إلى التباعد
ومن الواقعي إلى الافتراضي، ستزيد هذه الجائحة من عزلة الإنسان الحالي والاكتفاء بالظهور
خلف الشاشات بسبب الخوف السائد والذي لن يزول حتى بذهاب كورونا، وستظل بعض الأعراض
محلّ قلق وارتباك في تعاملاتنا يطغى عليها فقدان الثقة.. ستزول الأزمة لكن أعراضها
تبقى لفترة طويلة.
- لقد
أعادنا "كورونا" إلى قلق البدايات والنهايات، ودفعنا إلى البحث عن فلسفة
اجتماعية جديدة، فكيف ترى العالم ما بعد "كورونا"؟ وبمعنى آخر: أي نوع
من الحياة علينا أن نحياها؟ وما الذي ينبغي تدبيره لإحكام تقويم الحياة؟ وكيف
يمكننا التعايش معًا؟
"كورونا"
تعتبر لحظة مفصلية وحاسمة في حياتنا الراهنة كثير من المفكرين والخبراء يؤكدون على
أنّ ما بعدها سيكون مختلفًا، أي أنّ عالم ما بعد كورونا لن يكون كقبله. يرتقب بحسب
رأيي أن تطالب بعض المنظمات العالمية واللا حكومية بضرورة تأطير البحث العلمي لا
سيّما في الميدان الطبي، ومن حقّ الشعوب اليوم أن تطالب بمعرفة ما يجري داخل
المخابر فهي التي تدفع من أموالها كي تجرى هذه الأبحاث والدراسات. كما أتصور أن
يطالب المجتمع الدولي بإصدار قوانين وقرارات تجرم وتدين من يتسبب مستقبلًا في أزمات
وكوارث شبيهة بجائحة كورونا. أخيرًا أتوقع أيضًا أن تكون هناك دعوات إلى ضرورة
تفعيل مبدأ التضامن الدولي في مثل هكذا أزمات، وقد بيّنت أزمة كورونا مدى حاجة
المجتمعات لمساندة بعضها للتغلُّب على أوبئة مثل كورونا وغيرها، لا تبنى على
حسابات سياسية أو اقتصادية ضمن اتحادات أو تكتلات، إنما فقط على بعدها الإنساني.
كما أنّ
الدعوات الأخلاقية المُتكرّرة في سبيل العيش معًا ستظلّ أصواتًا لا صدى لها إلا
إذا حُوِّلت إلى إجراءات وقوانين تلزم الإنسان فردًا ومجتمعًا ودولةً بضرورة
الالتزام والعمل بها، أمّا ما قد يكون من مطالبة بتخليق الحياة بمناحيها المختلفة
الاقتصادية والسياسية والعلمية والاجتماعية من دون إجراءات مُلزمة وناجعة فلن
يتغير شيء.
- في
ظلّ اجتياح الوباء للعالم: هل سيصلح نواحي الإنسانية ويُضعف الحيوانية ويكسر شره
الهوى ويكفّ طغيان المال عن النفس، وبالجملة: هل سيعود البشر إلى إنسانيتهم أم
ترانا في أرض النفاق؟
ليست
هذه الجائحة هي أكبر أزمة مرت بها البشرية وإلى تاريخ غير بعيد قتلت الحرب
العالمية الثانية وسببها الإنسان الملايين من البشر بطريقة غير مسبوقة ولم تشهدها
البشرية من قبل ولم يتّعظ الإنسان من درسها وها هو مستمر في تدمير ذاته وغيره بما
يوحي أنّ طبيعة الإنسان بما تحتويه من ميول الشر والقسوة ستستمر إن لم تعد بأكثر
شراسة.
- لقد
أعاد "كورونا" اختبار كلّ شيء لدى الإنسان، فهل استرجعنا وعينا المفقود،
ثمّ هل أعاد ثقتنا في الله؟
الناس
إزاء كورونا صنفان: صنف رأى أنّها عقاب من الله على جملة من المظاهر التي ميزت
عالم اليوم وحادت عن معالم الأديان الهادية (تشترك في هذا جميع الأديان) وأن
الرجوع إلى الله كفيل بإنقاذ الإنسان.
صنف
آخر يذهب إلى أنّ مصدر الوباء هو الإنسان وبالتالي فالإنسان وحده مَن يتحمل
مسؤولية نتائجه الوخيمة وعليه أن يسعى إلى ترميم علاقته بغيره من البشر عبر إيجاد
لقاح لهذا المرض.
وبين
الصنفين نرى أنّ فيروس كورونا يُشكِّل محطة هامة لمُراجعة الذّات والتأمل في مكانة
الفرد البشري في هذا الكون وصِلَتِه بغيره من الكائنات سواء صغر حجمها إلى درجة
الميكرو أو كبر إلى درجة الماكرو، وعلى الإنسان أن يسعى في عيش على وفاق مع غيره
من الكائنات التي يتقاسم معها هذا الوجود.
- ما
هو أصعب دروس "كورونا"؟
يكمن
في اهتزاز ثقة الإنسان بنفسه وفي غيره ..... فالتحذيرات والاحتياطات التي ينصح
بتوخّيها مع هذه الجائحة جعلت من كل يقينيات الحياة اليومية لا معنى لها وغير
صحيحة وبات الشك سيد الموقف.
- أيّ
نظام قيمي آخر بعد فشل النيو ليبرالية في تقديم حلول لمشكلات الإنسان والتحدّيات
التي تواجهها البشرية؟
ستكون
هناك محاولات لترميم وترقيع لأعطاب هذا النظام بما يمكنه من مواصلة سيره دون أن
يلوح في الأفق نظام آخر ممكن؛ ذلك أن الصراع الصيني / الأمريكي هو في أساسه
اقتصادي (ليبرالي) بما يحمله من قيم ...عدا إذا أمكن للصين تطوير نظامها القيمي
المُستمدّ من تراثها القديم الكونفشيوسي والطاوي وعناصره الأخرى ما يجعلها تطرح
بديلًا.
- كلمة
أخيرة..
مع كل
ما تعيشه الإنسانية من ضيق ورعب وتشاؤم تحت وطأة جائحة كورونا (كوفيد 19) في سابقة
لم يعهدها العالم أغلقت كلّ منفذ للأمل وقيدت حريته وجعلته يعيد سؤاله
الأنثربولوجي الكانطي ما الإنسان؟ وما هي واجباته أمام نفسه والآخرين والعالم؟ مع
هذا يبقى بصيص أمل يشع من منفذ غير مرتقب قد يعيد الإنسان إلى جادة الصواب وإلى
حكمة مستجدة تبصره بمكانة وواجباته في السلم والأمن والعدل.
أشكركم
جزيل الشكر ووافره على هذه السانحة التي أتحتم لي من خلالها التعبير عما يجيش في
صدري وفي ذهني من خواطر حول أزمة كورونا ونحن في الحجر الصحي.. ولكم مودتي وتقديري
محمد جديدي
قسم الفلسفة / جامعة قسنطينة 2
الجزائر
حوار فكري حول جائحة كورونا ـ محمد جديدي ـ حاوره محمد عرفات حجازي I مدونة اتحاد الفلاسفة العرب
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
1:18 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: