صفاء عبد
السلام فرحات[*]
إن هذا الاستعمار الاقتصادي
الصيني الذي قام بفرد أجنحته وغرس مخالبه في شتى أنحاء العالم مطيحًا بأقوى دول
العالم اقتصاديًا وإجبارها على التراجع ليتخذ من الصدارة مكانًا مرموقًا بلا منافس
لم يترك لي الاختيار بين بديلين؛ فكلما هممت باختيار منتج وجدته مكتوبًا عليه
"صنع في الصين" تلك العبارة التي اكتسحت كل دول العالم وأهم تلك الدول
بالنسبة للصين في وجهة نظري هي الدول العربية حيث أنها دول تعتمد حاليًا اعتمادًا
شبه كلِّيًا على استيراد كل احتياجاتها من الخارج، حتى الأدوات والأشياء التي تعبر
عن تاريخ بلادنا العربية وتراثها لم تسلم من كتابة تلك العبارة عليها ما أدى من
وجهة نظري إلى تبديد الكثير من مظاهر التراث كالتغيير الجذري والتطور بلا معنى
للشكل التاريخي لفانوس رمضان مثلا في مصر منذ أن انتقلت صناعته من بلده الأم مصر
إلى الوحش الاقتصادي الصين، ولا عجب من تغافل المصريون عن ضياع هذا التراث في
مقابل توفير مصدرًا جاهزًا من مصادر الدخل دون كد أو تعب.
وفي
نظرة تأملية ممتزجة بالدهشة مما توصلت إليه الصين من تقدم، والخوف مما نحن عليه من
كوننا دول العالم.. صنفه كما تشاء.. فقل الثالث أو الرابع أو العاشر حتى، والغيرة
من هذا الشعب الصيني النشيط دائمًا والمتطلع إلى الأفق، تساءلت: لماذا الصين؟.. لقد
كان يطلق على الصين دائمًا "أرض المجاعة" وإلى عهد قريب وفي منتصف القرن
الماضي تعرضت الصين لما أطلق عليه "مجاعة القفزة الكبرى" والتي صنفت
كأكبر مجاعة في تاريخ البشرية وراح ضحيتها حوالي الثلاثين مليون شخص، كما كانت الصين
أيضًا دولة ذات ديون مستحيلة السداد حتى أنها كانت دولة شديدة الفقر حتى نهاية
السبعينات من القرن الماضي. ولو أن الشعب الصيني استسلم وخضع لهذا الوضع المهترئ لظل
قرونًا عديدة غارقًا في براثن الجوع والفقر. وبالرغم من أن الصين اعتمدت لبعض
الوقت على المساعدات المالية التي كانت تقدمها لها بعض الدول مثل الاتحاد السوفيتي
إلا أن الصين قامت بوضع خطط قصيرة المدى ـ خطط ذات الخمس سنوات - وبهدوء كلما
انتهت من خطة بدأت بما تليها معتمدة اعتمادًا أساسيًا في تطوير اقتصادها على نظرية
"السوق" التي أدت بدورها إلى انخفاض معدلات التضخم بصورة كبيرة حتى كاد
التضخم أن ينعدم متزامنًا هذا مع آليات أخرى تسير على الطريق الموازي مثل خصخصة
الشركات ذات المهام الاجتماعية، ومعالجة قضية التفاوت في الدخل، ونقل الاستثمارات
الأجنبية من المناطق الغنية إلى المناطق الفقيرة، ومحاولة إصلاح مؤسسات الدولة في
جميع القطاعات... وبالتدريج انفتح الاقتصاد الصيني في الإزدهار حتى غزت المنتجات
الصينية أنحاء العالم وقد حدث كل هذا في غضون الثلاثين عامًا الأخيرة فقط.. ثلاثون
عامًا هي فترات لا تذكر في عمر الشعوب خاصةً إذا كان شعبًا عريقًا كشعب الصين إلا
أنها تخطت بداخلها مئات الأعوام من الكسل الفكري الذي ابتليت به الشعوب النائمة.. إن
غضبي من عبارة "صنع في الصين" وتمنياتي لها الذهاب بلا عودة لتحل محلها
عبارة "صنع في مصر" لا يتناقض مع احترامي الشديد للجهد الصيني المضني
المبذول للسيطرة على العالم، وإن كنت أطلق عليه الاستعمار الاقتصادي الصيني
المهيمن، وأحيانًا الثقافي أيضًا؛ إلا أن تلك الهيمنة هي خيمة وضعتها الدول
المتخلفة كمظلة تحتمي بها من النشاط الفكري والعلمي حتى لا تقوم ببذل أي مجهود
للقيام به فتدخل في متاهات العمل الشاق.. وتضطر لأن تصحو من نومها قبيل ساعات
الظهيرة.
بعض المصادر:
هلا الخطيب: صنع في الصين: ما يمكن للمديرين
في الغرب أن يتعلموه من الصين .
صندوق النقد الدولي: آفاق الاقتصاد العالمي.
[*] باحثة من مصر
صفاء عبد السلام فرحات تكتب: صنع في الصين
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
3:13 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: