قد نجد للتصوف والتطرف
مشترك معنى بالبعد العميق، وإن كانا متضادين في المعنى المعياري لقيمة كل مفهوم، ولكن
قد نجد لهما تقارب مصداقي، وهذا التقريب دخل حيز التخطيط للتخريب، بمعنى أن
المتضاد هو متقابل مع الضد وهذا التجاور ينتج تحاور، على المدى القريب أو البعيد، أو
مصاهرة إذا لم تكن مقاهرة، بمعنى اتباع سياسة الإرغام ونعومة الانتقام. إذ لم يعد
مثل هذه الحالات في التعامل مع المتناقضات أن تعلن التصادمات. فالقضية باتت مرضية
من قبل كل طرف بلا كلف، لأن الجار أولى بجاره، والدار ينالها الخراب إذا لم يكن
للجار بها مهاب. اقتضت الضرورة التاريخية أن نكون مع القضية، أعداء في العلن وأحباب
في الخفاء كاللبن، هذا ما يجري مع مسألة التصوف الذي نشأ من فكرة الخوف لا الخرف، واتباعه
وسيلة لتقريب الله منها ونحن منه، ولكن ما الذي يحدث عندما يجد الصوفي نفسه في
غفلة من أمره؟ وأن التصوف ليس الطريق المناسب للوصول إلى الله بمعنى أن الرهبانية
هي منبوذة ومستنكرة ومرفوضة، لا سيما وأن العقلانية الدينية تدعو إلى التوازن بين
ما هو ديني ودنيوي، ولكن متى تكشف هذه العقلانية وقد بلغ التصوف بصاحبه إلى طرق
عدم رؤية الحياة كما يراها الدنيوي؟ إذا كان التصوف نهج وطريق ووسيلة فقط لبلوغ
الحقيقة التي أحب المتصوف بلوغها عن طريقه دون غيرها من الطرق، عندها ندرك أنه ليس
بعيدا عن طرق العقلانية والرجوع إليها إذا لم يكن بعيدا عنها أصلا. لأنه نهج معرفي
بالدرجة الأساس ومن ثم تحول إلى نهج عبادي أو العكس لا يهم، المهم هو أن هذه
الوسيلة يجب ألا يحكم عليها أنها جزء من مفاهيم الغلو والتعصب والتشدد، وإن كان
كذلك سوف يتحول التصوف الطريق العرفاني بأسرار المعرفة الدينية إلى نهج ايديولوجي
حركي سياسي، وبهذا التحول يفقد التصوف قيمته كمنهج معرفي له مقاماته وأحواله.
ويكون جزء من نهج سياسي داخلي أو خارجي، أو داخلي مستعمل من قبل جهات خارجية، عبر
الاستشراق ومدارسه أو أنه طريق جديد للمنافسة والحضور! بصيغة حزب مرة، أو حركة، أو
مدرسة علمية، أو تيار فكري، أو مؤسسات تأخذ صفة وطابع آخر مختلف عن فحواها وسلوكها
مرة أخرى، وهذا يعني أن السلوك الصوفي لم يكن كما كان عند الجنيد أو الحلاج أو ابن
عربي أو غيرهم من الذين يفنون حياتهم الجسدية والمادية من أجل قيم روحية اكتسبت، لا
بل أخذ السلوك الصوفي نهج المعارضة والمضاربة والمأربة ودخل بالسياسة ويشارك
بالقرار ويمنح الخيار. هذا النمط من التصوف بات نهجا في مدارسنا الصوفية المعاصرة
وأخذ يسمى بمسميات مختلفة، مثل: تصوف سني، وتصوف شيعي، وهذان المسمان هما الأبرز
من حيث الانقسام الفعلي في عالمنا الاسلامي، وبات الثاني يتهم الأول بالاقتراب من
التصوف اليهودي، والأول يتهم الثاني بالاقتراب من التصوف الصفوي أو الفارسي
الإيراني. هذه الاتهامات تعكس حجم الاختلافات والصراعات بين أطراف التصوف. وسبب
هذا الصراع هو استغلال الدوائر الاستخباراتية الدولية لحجم هذا الصراع بين المدارس
ودعم أحدهما على الأخرى، وتبيان أثرها السلبي على المجتمع والدين والمصالح، وهذا
ما دفع كثير من قادة التصوف السني إلى نقد الشيعة بعنف واتهامهم بتضييع الدين
وتهديم الأمة الإسلامية، وذلك لأن الشيعة يولون للقبور الصوفية مثلا أهمية كبيرة
بزيارتها وارتيادها. والشيعة يتهمون التصوف السني بأنه وفر أرضية لتخريب الإسلام
وكسر شوكته، من خلال تعاونهم واعتمادهم على دعم المخابرات والسياسات الدولية، في
تقويتها وموازاتها للحركات الدينية المعتدلة في العالم الإسلامي. فهناك حرب بين
المقامات والأحوال الصوفية، من بلغ مقاما صوفيا معينا وشجع به ممارساته ومظاهرها
وسلوكياته الشاذة، بقصد تشويه الدين من خلالها لأنها مستثمرة من قبل دول لا تريد
خيرا بالإسلام وأهله، فسرعان ما نجد من يستشعر هذا الخطر يعلن الحرب والعداء
والتشكيك الاجتماعي لهذه الحركات، ولكن الحرب بالمحصلة ستكون متقابلة، وعندها تضيع
قيمة الفعل الصوفي الصحيح. السؤال الأبرز هنا هل يستشعر الفرد هذا الصراع بين
المدارس الصوفية وانتماءاتها؟ هل يدرك الصوفي أن التصوف أصبح سياسة؟ هل يدرك أن
التصوف لم يعد منهجا معرفيا بل ايديولوجيا؟ هل يدرك أن كل القيم الروحية التي
يمثلها التصوف قد تبددت؟ هل يدرك حجم الخراب الذي يخطط له لإضاعة قيم الإسلام من
خلال مدارس التصوف ومنهجه؟ وهل يعتقد أن القيم الروحية في الإسلام يمثلها التصوف
فقط؟ ما شأن التصوف والسياسة؟! هل بات التصوف مرادف للتطرف؟! أم أنه منتج له؟ هل أصبح
التصوف منهجا للتطرف؟! أم أن السياسة جمعت بين الأثنين؟ هل التشكيك بنهج الصوفية
بات مبدد للتصوف؟ صحيح أن التصوف له بدايات سيكولوجية في الغالب، إلا أنه الآن
أصبحت له رغبات سياسية وأيديولوجية لها أن تفعل بالمجتمع ما تفعل بالسالك، وهذا
يعني أن المواقف ستكون مواقف مريد مع شيخه، وهذا يخلق حالة من الطاعة العمياء
ومصادرة لجمهور العامة، الذي عليه أن ينال من التصوف ما يجعل خياراته في تقويم
الواقع أقرب إلى تجريد مفاهيم، لا يستطيع به معالجة أي خلل أو مواكبة أي تطور. هل
يستفيد التصوف من التطور التكنولوجي؟ بالبعد البرجماتي للتصوف ممكن أن يكون الجواب
بنعم؛ لأن آليات نقل القيم لم تبت روحية صرفة بل تقنية بحتة! وهذا لم يحقق الأثر
الفاعل لمعنى القيم بل يساعد على تقمصها تعنتا وغلوا، لأنها صادرة من شيخ يكون قد
سحر أتباعه بزيف خطابه وما يتطلبه من دعم مادي، هذا فيما لو اقتصر على ذلك، فقد
بلغ ببعض متصوفة السياسية أو سياسي التصوف أن يزرع القيم الرذيلة بنفوس أتباعه حتى
ينتهي بهم إلى حاجة التطهر، والأخذ من شيخ الطريقة ليس بما يليق به بل بما يتلقاه،
وهذه دوغمائيات جديدة أضيفت إلى دوغمائيات الفقه وأصوله، فالدين لم يعد محميا كما
يجب وقيمه باتت مهددة بالهدر! لأن أتباعه نهلوا من غير مشاريع واعتقدوا بما استورد
منها ظنا منهم أنه جوهره ولكن في الحقيقة أنه ما يدمره. التطرف هو أحد صيغ التدين
وأشدها فهما متزمتا للدين، وقد امتد هذا السلوك من الخوارج، وبدأ في العصر الحديث
والوقت الراهن من أهم مصادر التفكير السياسي في مبدأ صراع الحضارات وتهديمها من
الداخل وعلى يد أبناءها، هذا الأمر الخطير في كون التطرف هو سلوك فردي أو جماعي أو
سلوك دولة، أم جماعات داخل دولة، أو سلوك مشاريع داخلية أو خارجية أو داخلية
خارجية أو العكس، فالأمر لا يختلف كثيرا مع دوائر التفكير السياسي باستثمار التطرف،
والذي نجحت به كل الأطراف الراغبة بالاستثمار إقليميا ودوليا ومحليا، مثلما فعل
بالعراق بتسخير داعش لخرابه أو لتدمير سوريا، أو ليبيا أو اليمن، أو حتى السعودية،
أو موريتانيا، أو النيجر، أو أفغانستان،
أو إيران، أو الصومال، أو حتى السودان، أو مصر، أو بلد آخر ينتج ويساعد على إنتاج
أو يمهد لذلك، أو يدعم بعده أو يشارك جهارا
بهذا المخطط أو ذاك، والتي تتبناه جماعات بمسميات دولة إسلامية أو جماعة إسلامية،
والذين يقودوها متطرفون تدربوا عليه في الخارج، مع دعم بالسلاح والأفكار والأفراد،
الفكر المشترك بهذا التطرف، وفر له بيئة مناسبة أينما يتجه ويكون، وقد نال حتى
الدول التي صنعته ودعمته وساندته. فالتطرف هو سلوك عدائي مع الاعتدال، ونهج مضاد
للتضاد، يريد أن يكون الحياة بلون واحد. هذا هو الأمر الذي يقارب مشروع التوأمة بين
التصوف والتطرف سياسيا، سياسة استثمار السلوك وتوحشه ونظرية نزع القيم وانتزاع
الهوية، ورغبة العيش، هذه السياسة ساعدت الظروف العربية على استقلالها واستفحالها
في ذهنية الفرد العربي، مما جعل حضور فكرة كره الأوطان، وتنامي رغبة الهجرة بين
الشبان، أمر مقبول ومشجع عليه، حتى في العواصم الأكثر رفاها، وأقصد بذلك من دول
الخليج، المجتمعات العربية باتت تكره ثقافة الحقد والكراهية السائدة في المجتمع
والتي انعكست سيكولوجيا ومرضيا على كيان الفرد المسلم والعربي، لا سيما بعد زوال
فكرة وواقع الحكم باسم القومية، والشموليات المشتركة بين البلدان العربية والإسلامية،
والتي أصبحت أفكار الفردانية، والشخصية، والاستقلال الانشطاري، لا الاستقلال الوحدوي، وتنامي أفكار الانفصال،
ونبذ الأقليات المتعايشة، والصراع بينهما، وتحجيم المكونات، والهويات الفرعية الأخرى
سياسيا، واجتماعيا، و نشاطيا على حساب مكون حاكم أو ايديولوجيا حاكمة أو عائلة
حاكمة، فنشأ التطرف وعوامل تعزيزه متصاعدة وليس متنازلة، متنامية وليس مضمحلة، قوية
وليس ضعيفة، فكيف للمضطهد الاستسلام والإقرار بالقاهر؟! بالتأكيد ينتج عنه تطرف
مضاد، وهذا ما شجعته دول في أمريكا وأوروبا وبلدان مجاوره ومحيطة ببلداننا العربية
والإسلامية، أو منظمات ومؤسسات في داخل بلداننا تنظير لهذه الانقسامات وإلغاء
التفكير الوحدوي من ذهنية شعوبنا العربية والإسلامية.
د. رائد عبيس يكتب: التصوف والتطرف من الفجوة العقائدية إلى الفحوى السياسية
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
8:39 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: