ما هي البيوإتيقا؟ إنها الإتيقا التي لا تطبق
بالتأكيد على الحي (وإلا كانت الإتيقا ذاتها) إنما على المشكلات التي طرحها التقدم
في علوم وتقنيات الحياة والصحة. لن نبالغ في التأكيد بأن البيوإتيقا ليست جزءًا من
البيولوجيا؛ بل هي جزء من الإتيقا، من الأخلاق أو من القانون (وفي الغالب من
الثلاث معا). إنها تتشكل من قيم جديدة بأقل مما هي ناتج لأسئلة جديدة. وعلى كل
واحد أن يجيب؟ وهذا بالطبع لن يكون كافيًا ومرضيًا. ذلك أن طبيعة المشكلات المثارة
ذاتها (التي تدعو إلى مراجعة، في كثير من الأحيان، أفرادًا عاجزين عن التعبير، وربما
لم يوجدوا بعد) تفرض تدخل المشرّع. هنا حيث تصير البيو تيقا حتمية بيوسياسية. إن
المشكلات الأخلاقية، ولأنها تهم المجموعات المحلية والسلطات (المجتمع)، لا يجب
تركها للضمير الفردي وحده.
هذا ما يبرر إنشاء، سنة 1983، لجنة استشارية وطنية للإتيقا. استشارية، بما
أن الشعب هو مصدر السيادة، وليس أية لجنة أخرى مهما تكن. وللإتيقا (لا نجرؤ على
القول «للأخلاق»)، ذلك أن هذه المشكلات، التي يثرها التقدم التقنوعلمي، توضع موضع
تساؤل، في الواقع، عددًا معينًا من القيم التي تعود إلى الجمهورية، ضمنيًا أو علنًا:
الحرية، المساواة، الإخاء، الكرامة، احترام الحياة، حماية الأضعف، الحق في العلاج،
وفي المعلومات، في السرية، إلخ. فلا صعوبة، في كل حالة أخلاقية، عندما يكون الجميع
متفق. أن يعالج الأكثر فقرًا، على سبيل المثال، بمثل ما يعالج الأكثر غنى، فهذا ما
ييسر، أخلاقيًا، الحصول على إجماع. إن الصعوبة هنا، ليست أخلاقية؛ بل هي اقتصادية،
اجتماعية، سياسية. فالخلافات لا تتعلق بالغاية (الاستفادة المتساوية في العلاج)
بقدر ما تتصل أكثر بالوسائل لبلوغها أو الاقتراب منها.
لكن ماذا يحدث عندما يتعلق الأمر بالإجهاض؟
بالأوتنازيا (الموت الرحيم)؟ بالأم البديلة؟ فالخلاف، حول هذه القضايا، يتصل
بالأخلاق أو الإتيقا. كيف يمكن لدولة جمهورية أن تحسم، حتى لما يكون مواطنوها، على
علم (دراية) وبنية حسنة، على خلاف كبير فيما بينهم؟
إننا نتحدث عن نزاع في القيم. تقريبًا على الدوام خاطئ. لنـــــــأخذ على
سبيل المثــــــال فاي[§] .Veil فالذين ناهضوها إنما فعلوا ذلك
باسم احترام الحياة. والذين ساندوها، قاموا بذلك باسم احترام حرية المرأة. فهذا لا
يعني أن الأوائل لا يحترمون الحرية، ولا أن الأخيرين يحتقرون الحياة.
إن ما كان من تعارض بينهم، لم يكن صراعًا بين قيمتين ـ فالغالبية كانت
مرتبطة بهذه القيمة أو تلك ـ بقدر ما كان بين طريقتين في ترتيبهما: فالبعض يضع
الحياة أعلى من الحرية (ومن ثم ناهضوا قانون فاي إذن)، والبعض الآخر وضعوا الحرية
أكثر حتى من الحياة (وبالتالي أيّدوا هذا القانون ذاته).
لنلاحظ أن عدم تجريم الإجهاض، الذي هو تقريبًا الآن محل إجماع، لم يحل بأي
حال القضية الأخلاقية، ولا حتى تلك، التي يمكن أن نقول عنها ميتا إتيقية، للتسلسل
الهرمي بين هذه القيم. لهذا فإن قانون فاي هو قانون ممتاز: ليس لأنه يحل مشكلة
أخلاقية (تتعلق بالخير والشر)، بل لأنه يحل مشكلة سياسية (تتعلق بالقانوني وغير
القانوني). كثير من مناصري قانون فاي، وأنا منهم، يعتبرون أن الإجهاض، مع أنه
قانوني الآن، خلال الأسابيع الإثنى عشر الأولى من الحمل، لم يتوقف عن طرح عدد من
القضايا الأخلاقية.
لكن من الأحسن أن تترك
الدولة للأفراد المعنيين، وخاصة النساء، حق الإجابة. والأمر نفسه، في اتجاه معاكس،
بالنسبة للأوتنازيا: فأن تكون حاليًا ممنوعة قانونيًا لا يمنعني مطلقًا أنْ
أُعدّها أحيانًا مشروعة. إن الشعب سيد فيما يتصل بالقانون، لكنه، بالتأكيد ليس
كذلك في الأخلاق. إنه يحكم نفسه، لكنه لا يسود على معرفتي.
في الختام، نضيف أن الخلافات الأخلاقية، في بلداننا، تنشأ تقريبًا على الدوام من خلافات ميتافيزيقية، تتعلق مثلًا بالوضع القانوني للجنين، التصرف الحر أو لا، لكل واحد، في حياته وموته، التمييز أو لا بين الروح والجسد، إلخ. في حين، إن الجمهورية، وبما أنها لائكية، فليس لها ميتافيزيقا، ولا آراء حول هذه القضايا. ينبغي عليها أن تحسم في أمرها، هنا أيضًا، من دون حلها. وفي هذا درس، للديمقراطيين، في التواضع، الوضوح وفي المسؤولية. الدولة ليست هنا لتنطق بالخير والشر، ولا الحقيقي من الخاطئ، إنما فقط لتثبت للجميع عددًا معينًا من الحدود المشتركة التي لا يجب اختراقها وتجاوزها من أي طرف. ما تبقى يعود إلى الأفراد. إن البيوإتيقا، دومًا جماعية، لا يمكنها أن تحل محل الضمير، على الدوام فردي.
في الختام، نضيف أن الخلافات الأخلاقية، في بلداننا، تنشأ تقريبًا على الدوام من خلافات ميتافيزيقية، تتعلق مثلًا بالوضع القانوني للجنين، التصرف الحر أو لا، لكل واحد، في حياته وموته، التمييز أو لا بين الروح والجسد، إلخ. في حين، إن الجمهورية، وبما أنها لائكية، فليس لها ميتافيزيقا، ولا آراء حول هذه القضايا. ينبغي عليها أن تحسم في أمرها، هنا أيضًا، من دون حلها. وفي هذا درس، للديمقراطيين، في التواضع، الوضوح وفي المسؤولية. الدولة ليست هنا لتنطق بالخير والشر، ولا الحقيقي من الخاطئ، إنما فقط لتثبت للجميع عددًا معينًا من الحدود المشتركة التي لا يجب اختراقها وتجاوزها من أي طرف. ما تبقى يعود إلى الأفراد. إن البيوإتيقا، دومًا جماعية، لا يمكنها أن تحل محل الضمير، على الدوام فردي.
[*] نشر هذا المقال ضمن كتاب جماعي قام
بتنسيق نصوصه الأستاذ علي بنمخلوف وقد صدر بمناسبة الذكرى الثلاثين لتأسيس اللجنة
الاستشارية الوطنية للإتيقا في فرنسا (1983ـــ 2013)
Ali Benmakhlouf (Coordonné par),
La bioéthique pour quoi faire ? Par les membres du CCNE, PUF, Paris, 2013,
p.p. 38-41.
[†] فيلسوف
فرنسي (1952ــــ )، عضو اللجنة الإستشارية الوطنية للإتيقا من سنة 2008 إلى 2016،
وصاحب عدة مؤلفات منها: القيمة والحقيقة: محاولات كلبية(1994)، هل الرأسمالية
أخلاقية (2004)، الحياة الإنسانية (2005)، ضد الخوف و100 مفردة أخرى (2019).
[‡] باحث أكاديمي
ومترجم من الجزائر، نشرت له مجموعة مؤلفات ونصوص ومقالات مترجمة حول الفلسفة
والبيوإتيقا.
[§] المقصود
بقانون فاي هو القانون المتعلق بتحديد تجريم التوقيف الطوعي للحمل والمؤطر للإجهاض
(في 17 جانفي 1975) والذي أعدّته سيمون فاي Simone Veil وزيرة الصحة آنذاك في عهد الرئيس فاليري جيسكار ديستان Valéry Giscard D’Estaing
أندريه كونت ـ سبونفيل: حدود البيوإتيقا I مقالات I مدونة اتحاد الفلاسفة العرب
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
1:11 ص
Rating:
ليست هناك تعليقات: