" يولد
الأطفال أذكياء بالفطرة ثم يقوم الكبار بمناهجهم التربوية البليدة بتشكيلهم أغبياء"
ولا زالت بعض الرعويات العربية تمنع تدريس الفلسفة بجامعاتها!
ارتبطت الفلسفة عبر تاريخها الطويل بصورة
نمطية للرجل الكهل الذي يبدو منهمكًا في التأمل والتفكير في مشكلات العالم
الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) وتطالعنا الأنثربولوجيا الفلسفية منذ القرن
السادس قبل الميلاد في اليونان القديم بنماذج بالغة الرمزية والدلالة للصور
النمطية التي اكتسبتها الفلسفة ورموزها الفاعلة - (سقراط، أفلاطون، أرسطو، الفارابي،
ابن رشد، ابن خلدون، ديكارت، كانط.. الخ) - في تاريخ الفكر الإنساني العام.
فالفلسفة هي فيلو سوفيا بمعنى (حب الحكمة). والفيلسوف هو محب الحكمة أول صديق
الحكمة بحسب هدى الخولي.
ويعد أفلاطون أول من صاغ نظرية للتربية في
جمهوريته الفاضلة ونادى بتربية الأطفال وتنمية قدراتهم عبر نظام تربوي وتعليمي
صارم على مدى خمسين عامًا في خمس مراحل تبدأ بالتربية البدنية وتنتهي بالتربية
الفكرية الفلسفية. إذ وضع التربية الفكرية في قمة الهرم الذي يتربع عليها الملك
الفيلسوف. ربما كان السياق التاريخي وشروط قواه الفاعلة التي تستند على عناصر
القوة المادية الفجة؛ قوة الأجساد والسواعد وقوة الجماعات المنظمة والعتاد
العسكري، ذلك السياق الذي شكل التاريخ الإنساني الماضي حتى عهد قريب هو ما يفسر
هيمنة النموذج الأفلاطوني في التربية والتعليم النظامي. لكن مع ما شهده عالمنا
المعاصر من تحولات عميقة بفضل ثورة الاتصالات والمعلومات، بدأ التفكير الجاد
بإعادة النظر في الباراديم التربوي والتعليمي الذي ساد الحضارتين الماضيتين؛ حضارة
الموجة الزراعية وحضارة الموجة الصناعية، بحسب توفلر. مع بزوغ حضارة الموجة
الثالثة حضارة الانترنت والمعرفة أخذ العلماء الفلاسفة يفكرون في كيفية الاستجابة
الفاعلة لهذا التحدي الجديد "نحن بحاجة إلى فلسفة جديدة للمعلوماتية.. فلسفة
تمكننا من فهم واستيعاب التحولات العميقة والواسعة النطاق التي أحدثتها تكنولوجيا
المعلومات والاتصالات وفهم طبيعة المعلوماتية ذاتها.. نحن في حاجة إلى الفلسفة
لنترقب ونوجه الأثر الأخلاقي لتكنولوجيات المعلومات والاتصالات علينا وعلى بيئتنا.
نحن بحاجة إلى الفلسفة لبناء الإطار الفكري المناسب الذي يمكن أن يساعدنا على
إدراك الدلالات والمعاني العقلية لمأزقنا الجديد، وباختصار، نحن في حاجة إلى فلسفة
المعلومات بوصفها فلسفة تخص عصرنا، من أجل عصرنا".. هكذا استهل المفكر الإيطالي
الجنسية لوتشيانو فلوريدي أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد
بالمملكة المتحدة ورئيس مجلة الفلسفة والتكنولوجيا "ينظر، كتاب، الثورة
الرابعة، كيف يشكّل الغلاف المعلوماتي الواقع الإنساني. في هذا السياق التاريخي
الواسع يمكننا فهم ومعنى أهمية وحيوية مشروع تدريس الفلسفة للأطفال الذي بدأت
فكرته وتطبيقها عند عالم التربية الأمريكي، ماثيو لبيمان، من خلال مؤلفاته
العديدة، من بينها؛ التفكير في التربية و"الفلسفة في الفصول الدراسية، ورواية
اكتشاف هاري ستوتلميير) وغيرها من الكتب الأخرى، التي عمل فيها ماثيو ليبمان على
إبراز دور وأهمية تدريس الفلسفة للأطفال.
ترتكز منهجية ليبمان الأكثر شهرة في العالم
على ثلاث أهداف:
ـ تربية وتنمية ثقافة السؤال والحوار العقلاني
في المدرسة من خلال الانطلاق من أسئلة الأطفال نفسها وإشراكهم في التفكير
بالمشكلات الحيوية.
ـ حث الأطفال على كتابة نصوص سردية تتمحور حول
انتماء الطفل إلى شخصيات وحالات (تستحضر البعد الإنثربولوجي).
ـ تحفيز التفكير الذاتي عند الأطفال وتخصيص
حيز للكلام وتبادل الأفكار معهم بشأن المشاكل العالمية: البيئة، الفقر،
اللامساواة... وتكون المناقشة حرّة، شريطة استحضار النقد والدليل والحجة.
ويرى الفيلسوف البرجماتي جون ديوي:
"تخولنا وجهة نظر التربية أن ندرك المشاكل الفلسفية حيث تنشأ وتنمو في عقر دارها،
حيث الـ "نعم" والـ "لا" تعبران عن معارضة عملية" وإذ ما
رأينا في التربية تكوين النزعات الأساسية الفكرية والوجدانية التي تتعلق بالكون
والله والعالم والتاريخ والانسان والحياة والموت والخير والشر والجمال والقبح
لعرفنا أهمية تربية العقل وتنمية ملكة التفكير النقدي عند الأطفال.
وعلى مدى نصف قرن من تطور هذا المشروع التربوي
التعليمي العالمي بات اليوم يكتسب انتشارًا وتطورًا عموديًا وأفقيًا في عموم بلدان
العالم، وقد جمعت المنظمة الأممية للتربية والعلم والثقافة، اليونسكو مجمع عناصر
المشروع وتطوراته النظرية والمنهجية والمؤسسية في كتاب (الفلسفة مدرسة الحرية:
تعليم الفلسفة وتعلم التفلسف: وصف الحالة الراهنة واستشراف المستقبل) ٢٠٠٩م، وتم
ترجمته بدعم من صندوق مشروع الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود لتطوير اللغة
العربية بمنظمة اليونسكو. وقد بينت الدراسات العلمية أن هذا النمط من التعليم الذي
ينمي الفكر ويوسع الآفاق المعرفية العقلانية عند الأطفال قد أنتشر بسرعة مذهلة في
معظم دول العالم الراهنة غربًا وشرقًا عدا الدول العربية. رغم أن الدراسات أكدت أن
هذا النمط من التعليم هو المنهج السليم لتجاوز الكثير من المشكلات الراهنة ومنها
مشاكل: التطرّف والعنف والإرهاب.
إذ أن الفرضية الاساسية لهذا النمط التعليمي الجديد تنطلق من أن عقول الأطفال هي أكثر قدرة على التفكير والخيال بحكم خلوها من أوثان الذاكرة التي تستبد بعقول الكبار. فالأطفال منذ سن ثلاث سنوات يبدون فضولًا لا مثيل له في التعرف على العالم من حولهم؛ إذ نجدهم يتساءلون عن كل ما يصادفهم في حياتهم (ما هذا؟ لماذا؟ من هو؟ وماذا يعني؟). والأطفال فضوليون بطبعهم، يحاولون بكل شكل إيجاد إجابات ممكنة الفهم لها علاقة بمعنى وجودهم، بما تعنيه الحياة بالنسبة لهم، في كل مرة تجيبهم عن شيء ما سوف يعاودونك بالسؤال "لماذا؟!" حتى تنتهي منك الإجابات عند خانة "لا أعرف"، لذلك حينما نتساءل عن: هل يمكن أن يتعلم الأطفال الفلسفة؟، فإن إجابة جون باجيه صاحب النظرية الشهيرة القائلة إن الأطفال حتى سن 12 لم يمتلكوا بعد الخبرة الإدراكية الكافية لفهم ما يعنيه "التفكير في التفكير" قد تترنح بالفعل أمام تساؤلات الأطفال اليومية والتي تدعنا – نحن الكبار – في حيرة – ربما – بالغة.
إذ أن الفرضية الاساسية لهذا النمط التعليمي الجديد تنطلق من أن عقول الأطفال هي أكثر قدرة على التفكير والخيال بحكم خلوها من أوثان الذاكرة التي تستبد بعقول الكبار. فالأطفال منذ سن ثلاث سنوات يبدون فضولًا لا مثيل له في التعرف على العالم من حولهم؛ إذ نجدهم يتساءلون عن كل ما يصادفهم في حياتهم (ما هذا؟ لماذا؟ من هو؟ وماذا يعني؟). والأطفال فضوليون بطبعهم، يحاولون بكل شكل إيجاد إجابات ممكنة الفهم لها علاقة بمعنى وجودهم، بما تعنيه الحياة بالنسبة لهم، في كل مرة تجيبهم عن شيء ما سوف يعاودونك بالسؤال "لماذا؟!" حتى تنتهي منك الإجابات عند خانة "لا أعرف"، لذلك حينما نتساءل عن: هل يمكن أن يتعلم الأطفال الفلسفة؟، فإن إجابة جون باجيه صاحب النظرية الشهيرة القائلة إن الأطفال حتى سن 12 لم يمتلكوا بعد الخبرة الإدراكية الكافية لفهم ما يعنيه "التفكير في التفكير" قد تترنح بالفعل أمام تساؤلات الأطفال اليومية والتي تدعنا – نحن الكبار – في حيرة – ربما – بالغة.
وعلى النقيض من تنظير عالم النفس السويسري جان
بياجيه، يذهب جاريث ماثيوز، الفيلسوف الأميركي المتخصص في تدريس الفلسفة للأطفال،
أن نتائج العديد من الدراسات تؤكد أن الطفل في سن صغيرة قادر على بناء حجج جيدة،
وصياغة تساؤلات مهمة عن القيم، واللغة، والميتافيزيقا، وحتى نظرية المعرفة. تلك
إذن بداية جيدة للغاية. مع الأطفال تستعيد الفلسفة روحها حيث تولد الدهشة ويتولد
العجب وتثار الأسئلة في منابعها الأصلية الفطرية البريئة من الأوثان والأحكام
والتحيزات.
وفي الختام يمكن الإشارة إلى الفرق بين نمطي
مناهج التربية التعليم: يرتكز منهج النقل والتلقين في التعليم التقليدي على مفارقة
منطقية، فهو من جهة يدعو إلى تعليم عقول التلاميذ معارف سابقة جاهزة ومكتملة
التكوين، ومن جهة أخرى يدعوهم إلى التخلي عن عقولهم وعدم الثقة بها، فضلا عن كونه
يقوم على فرضية خاطئة في النظر إلى عقول المستهدفين بالتعليم بوصفها أوعية ثابتة
وجامدة يمكننا حشوها بما نشاء من معارف وأفكار جاهزة عبر النقل والتلقين دون
الخشية من سوء الفهم والتأويل، أو دون أن يخامرنا الشك بسلبيتها المطلقة في التلقي
والحفظ والتخزين والاستعادة، تمامًا كما نقوم بنقل الأموال وإيداعها في البنوك
الإسلامية كأمانة ثابتة نستعيدها وقت الحاجة بدون ربح أو فائدة!
هذا النمط من التعليم المسمى بالتعليم البنكي،
يكون فيه المعلم الشيخ أو الناقل هو الطرف الإيجابي الفاعل، بينما يكون المستهدف
بالتعليم (التلميذ) هو الطرف المتلقي السلبي؛ إذ تقتصر وظيفة هذا الأخير على حفظ
ما نُقل إليه واسترجاعه استرجاعًا حرفيًا دون بذل أي جهد فكري نقدي للفهم والتدبّر
والتأويل والتفسير! وكلما زاد انتشار هذا النمط من التعليم التقليد كلما زاد عدد
الأشخاص المنمطين تنميطًا صارمًا في محاولة عابثة لاستنساخ النسخة الأصلية التي أثبتت
الخبرة التاريخية والتجربة الاجتماعية استحالة نقلها وحفظها وتلقينها واسترجاعها
بحذافيرها، وذلك من طبيعة التاريخ الذي يستحيل إعادته مرتين! لأن أحداثه نوعية
وفريدة في معطياتها التاريخية الزمنية والمكانية وسياقاتها الاجتماعية والثقافية،
وكل محاولة لاستنساخ التاريخ هي مهزلة عابثة! وهكذا يمكن القول أن التعليم الذي لا
يوسّع من مدارك المستهدفين وينمي معارفهم وفهمهم بموضوعات ومشكلات واقعهم وعالمهم
ويزودهم بالقدرة والذكاء الفعّال لمواجهتها وحلها، لا قيمة له ولا فائدة، فضلًا عن
كونه ممارسة لتكريس الجهل والتجهيل المزدوج! وتكمن خطورة هذا النمط من التعليم
التقليدي في قدرته على تشكيل وتنميط عقول المستهدفين تنميطًا صارمًا وجعلها تعتقد أنها
وحدها من يمتلك العلم والمعرفة الصحيحة وما خلاها هو الجهل والضلال. وكلما تم
تشكيل الأذهان على نمط من أنماط الاعتقاد المعرفي كلما بات من الصعب تغييرها!
والمعرفة ليست اعتقادًا مغلقًا، بل هي، ويجب أن تكون انفتاحًا دائمًا للعقل على كل
جديد، وانشغالًا متقدًا للفهم والذكاء في محاربة الجهل ونقد وتصويب الأخطاء وحل
المشكلات وتصحيح المناهج والمسارات.. يبدأ العقل بالدهشة ثم السؤال ثم التفكير
وينتهي إلى الفهم.
د. قاسم المحبشي يكتب: وداعًا أفلاطون.. الفلسفة والأطفال.. استئناف الدهشة
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
10:39 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: