اتحاد الفلاسفة العرب

مشروع حضاري فكري تنويري، يهدف إلى جمع فلاسفة ومتفلسفة العالم العربي من المحيط إلى الخليج؛ لأجل تحويل الخطاب الفلسفي إلى خطاب عقلنة مجتمعاتنا التي تأخرت قرونًا عن ركب الحضارة..

د. قاسم المحبشي يكتب: حينما يكون الجسد أكثر إدهاشًا من الروح


قاسم المحبشي[*]
   مهد سبينوازا سبيلًا جديدًا للعلوم والفلسفة بقوله: "يصل بنا الأمر إلى أننا لا نعرف ما يستطيعه الجسد" إننا نتكلم عن الوعي عن الروح، عن النفس، عن الفكر، نثرثر في كل تلك الموضوعات، غير أننا نجهل الكثير عن الجسد، الذي به لا بغيره كنا وظهرنا وصرنا أشخاصًا وعشنا وامتلكنا أسماءنا. الجسد الذي هو جسدك وجسدي وجسده وجسدها، وهو أقرب الأشياء وأكثرها حميمية بالنسبة لنا، نلتصق به ويلتصق بنا منذ لحظة الإخصاب الأولى لبذرة كينونتنا في الأرحام وحتى الممات. هذا الجسد الذي هو أنا ـ أنت قلما نتوقف عنده بالتساؤل والبحث، بل ما زال بعيدًا عن فهمنا، وربما كان الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو يقصد ذلك بمعنى من المعاني بقوله: "إن أكثر الأشياء قربًا وحميمة في حياتنا ومنها هي أكثرها بعدًا واغترابًا عن فهمنا". هذا هو الوصف الصحيح لموقفنا من الجسد الذي نجهل ما هو بالضبط و(لا نعرف علام يقدر وأي قوى هي قواه وماذا تهيأ). كما تساءل ذات يوم نيتشه إن هذا الطرح الجديد لعلاقة الروح بالجسد يعد فتحًا جديدًا في تاريخ الفكر الإنساني، ذلك لأن المعرفة الإنسانية الماضية كانت تنظر إلى هذا الموضوع من زاوية الفصل التام بين الروح والجسد، بحيث جرى الاعتقاد وما يزال يجري إلى الآن بأن العالم ينقسم إلى روح وجسد، عقل ومادة، عالم المثل وعالم الأشياء، أرض وسماء، عالم ما تحت فلك القمر وما فوقه، ثابت ومتغير، جوهر ومظهر، كون وفساد، خلود وزوال، محرك ومتحرك، فكر وامتداد كما عبر ديكارت، مادي وروحي، وعي وواقع، نفس وجسم.. الخ. وتكشف الأصول التي تنتمي إليها الأنثوبولوجيا التقليدية والتصورات اللاهوتية إن التوقف من أجل تعيين الكائن الإنساني في ماهيته قد أنسانا مسألة كينونته؛ إذ اعتبرت هذه الكينونة بمثابة تحصيل حاصل. فالإنسان ينقسم في كينونته إلى شطرين لا يلتقيان؛ جسده بعده كائن دنيوي حسي زائل وروحه بعده، جوهر أزلي خالد إلهي يحل بالجسد ليبعث فيه الحياة ويحفظها إلى حين، ثم يتخلى عنه ليعتريه الانحلال والفساد، غير أن هذا الموقف الفلسفي واللاهوتي والرؤية العامة بإزاء الروح والجسد منذ أقدم العصور كانت بمثابة الحقيقة المطلقة التي لم تسمح بالتساؤل حول دلالتها، ولما كانت الروح ذات طبيعة غير حسية وغير متاح مشاهدتها واختبارها في الواقع ظلت مثار دهشة الإنسان وحيرته، وحظيت باهتمام العلوم والأديان والفلسفات، في حين أن الجسد لم يحظ إلا بالقليل القليل من الاهتمام والقيمة، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا، أخذ بعض الفلاسفة ومنهم نيتشه يلتفت بجدية إلى فكرة سبينوزا أعلاه، ويرى أنه آن الأوان لأن يصبح فيها الفكري الروحي الواعي متواضعًا حتى نستطيع فهمه وبيان حدوده، رد الوعي ـ يقصد وعي الانسان ـ إلى التواضع الضروري هو التعامل معه كما هو، عرض، ولا شيء غير واحد من أعراض تحول أكثر عمقًا من أعراض فعالية قوى ذات طبيعة غير روحية؛ إذا أكد نيتشه "ربما تعلق الأمر بالجسد الذي يعد الحقل الخصب في كل تطور الوعي، الروح".
   على هذا النحو يلتفت نيتشه إلى الجسد بقوله: "ما يدهش أكثر هو الجسد وليس الروح، كم هو مبهجًا أن يستمر المرء بالدهشة من فكرة كون الجسد الإنساني قد أصبح ممكنًا".
   إن دهشة نيتشه بإزاء الجسد هي أكثر عمقًا من دهشته بإزاء العدم، ولعله حينما اكتشف العدم لم يكن على مثل ما أصابه من الحيرة والقلق حينما وقف مدهشًا في تأمل الجسد الذي بدا وكأنه يراه لأول مرة في حياته، ورغم ذلك يعترف نيتشه بالأهمية النوعية للوعي في فهم الجسد وظواهر العالم الكثيرة بقوله: "لقد سبق أن بينت أنه لا يمكن معرفة ما يستطيعه الجسد انطلاقًا منه هو بالذات ومن طبيعته فحسب بل تعلمنا بالتجربة والخبرة ومعرفة قوانين الطبيعة بأنه قد تنشأً عدد كبير من الأشياء والظواهر التي لا يمكن تصديقها، اللهم إلا بتوجيه العقل أو الوعي".
   في الواقع إنني إذ أحاول الخوض ومناوشة سؤال الجسد المثير هنا لست بأقل حيرة من نيتشه الفيلسوف الذي يعود إليه فضل اكتشاف العدم، وأفول الأصنام، بل أعترف بجهلي ورغبتي المتعطشة إلى معرفة شيء عن هذا المشكل الجدير بالبحث والتساؤل لا سيما وقد غدت مشكلة الجسد اليوم من المشكلات الفلسفية الحيوية والمثيرة للجدال والنقاش في كثير من الدوائر الأكاديمية والثقافية والإعلامية الراهنة، واكتسبت موقعها في حقل الدراسات الثقافية والنقد الثقافي. وللأمانة التاريخية والتوثيق الشخصي أزعم بأن فكرة الجسد والانشغال به قد أخذت تراودني منذ كنت طالبا في الماجستير مطلع تسعينيات القرن الماضي، وذلك بعد قراءات معمقة في الفلسفة المعاصرة، لا سيما الوجودية والإنسانية عامة، وأذكر بأني نشرت مقالًا مطولًا في صحيفة 14 أكتوبر العدنية (في فلسفة الجسد) قبل أكثر من عشر سنوات، وأرسلت نسخة منه إلى مجلة نزوى العمانية، ومن الطريف أن أشير إلى أن صدور مجلة (سطور) المصرية عدد سبتمبر 1999 المكرس للجسد حينذاك قد كان له تأثير السحر في تحفيزي للقراءة في فلسفة الجسد الضنينة جدًا في ثقافتنا العربية الإسلامية التي أقفلت باب النظر العقلي في هذا الأمر الخطير الشأن الذي أثار دهشة الآخرين، ومع أن الذي أثار دهشة الفلاسفة هو جسد الإنسان أي جسدك وجسدي وجسدها، إلا أننا ما نزال بعيدين عن مثل هذه الدهشة الحافزة للتأمل وللاهتمام والبحث، فالأمور تمضي هنا وكأن كل شيء صار مفهومًا ومعروفًا لنا، دون أن نكلف أنفسنا طرح السؤال، عن ذلك الشيء الذي نعتقد أننا نعرفه حق المعرفة، أي الجسد. لكننا حينما نواجه بالسؤال البسيط ما هو الجسد؟ يعترينا التلكؤ ونصاب بالتلعثم ونكتشف مدى جهلنا ومدى حاجتنا إلى المعرفة. فالجسد ما زال غائبًا عن أفق ثقافتنا، وهو من المفاهيم المستبعدة من فضاء وعينا وتفكيرنا، وهذا ما جعل الكتابة فيه وعنه أكثر صعوبة ولكنها أكثر ضرورة. فما هو الجسد؟
   يورد ابن منظور في لسان العرب لفظة الجسد بمعنى: "جسم الإنسان، ولا يقال لغيره من الأجسام المتغذية، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض. والجسد، البدن.. قال عز وجل: (فأخرج لهم عجلًا جسدًا له خوار). وقال أبو إسحاق في تفسير الآية: الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز، إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط، والجاسد من كل شيء ما اشتد ويبس، والأجسد مصدر قولك جسد به الدم يجسد إذا لصق به،" ص622.
   لكن هل استطاع لسان العرب أن يجيب عن السؤال الذي يهمنا؟ لا أعتقد ذلك، فكل ما قاله أن الجسد هو جسم الإنسان لكن ما هو هذا الجسم؟ ما طبيعته؟ ما الذي يحدد ماهيته؟ ما هي قدراته، وما علاقته بالروح بالوعي بالعقل بالفكر... الخ؟
ربما كان علينا البحث في مدلولات هذه الأسئلة في سياق مغاير ولغة أخرى وفكر مختلف، أي في لغة الفلسفة والفكر المعاصر. فهذا واحد من أهم الفلاسفة المعاصرين (جيل دولوز) تساءل: "ما هو الجسد؟ ـ ثم أجاب مباشرة بقوله ـ نحن لا نحدده بقولنا: أنه حقل قوي، وسط غني تتنازعه قوى متعددة، لأنه لا يوجد في الواقع "وسط" ولا حقل قوي أو حقل صراع ليس هناك كمية من الحقيقة، فكل حقيقة هي في الأساس كمية قوى، لا شيء غير كميات القوى في علاقة توتر الواحدة مع الأخرى... وكل قوة هي في علاقة مع قوة أخرى، ما يحدد جسدًا ما هو هذه العلاقة بين القوى المهيمنة والقوى الخاضعة، كل توازن قوي يشكل جسدًا كيميائيًا بيولوجيًا اجتماعيًا سياسيًا. إن قوتين معنيتين غير متساويتين تشكلان جسدًا بمجرد دخولهما في علاقة، لذلك فالجسد هو دائمًا ثمرة الصدفة بالمعنى النيتشوي ـ أي (عرض من الأعراض) ـ التوضيح بين الهلالين من عندي ـ وهو يظهر كأنه الشيء الأكثر "إدهاشًا" بكثير من حقيقة الوعي أو الروح. غير أن الصدفة وهي علاقة القوة بالقوة هي أيضًا جوهر القوة، إذ لا يجوز التساؤل عن كيفية ولادة جسد حي، لأن كينونته جسدًا هي بصفته نتاجًا اعتباطيًا أو عرضيًا للقوى التي كونته.
   الجسد هو ظاهرة متعددة لكونه مكونًا من تعدد قوى يتعذر تقليلها، ووحدته هي وحدة ظاهرة متعددة "وحدة هيمنة تسمى القوى العليا أو المهيمنة في جسد معين قوى فاعلة، أما القوى السفلى أو الخاضعة فهي قوى ارتكاسية. الفاعل والارتكاسي هما بالتحديد الصفتان الأصليتان اللتان تعبران عن علاقة القوة بالقوة، لكن القوى التي تدخل في علاقة لا يكون لها كمية دون أن يكون لكل منهما، في الوقت ذاته، النوعية التي تقابل الاختلاف الكمي، هذا الاختلاف بين القوى يسمى تراتبًا، لكن كيف نستطيع التمييز بين القوى؟ أي كيف نعرف أن نفرق بين القوى الارتكاسية والقوة الفاعلة، نستطيع ذلك من خلال عاملين أو نسقين هما "الأمر والطاعة"، على هذا نستطيع القول وفقًا لمبدأ التراتبية: أن القوى السفلى لا تكف في إطاعتها عن أن تكون قوى متميزة عن تلك التي تأمرها.
   إذن نحن أمام قوتين هما:1-القوى السفلى، ارتكاسية طبيعية. 2- القوى العليا فاعلة آمرة.
   ويضيف جيل دولوز: تتحدد القوى السفلى كقوى ارتكاسية أنها لا تخسر شيئًا من قوتها، أنها تمارسها محققة الآليات والقصديات، موفرة شروط الحياة والوظائف ومهمات المحافظة والتكيف والمنفعة. هنا تكمن أهمية مفهوم الارتكاس عند نيتشه، التكيفات الآلية والنفعية، والخضوعات التي تعبر عن كل سلطة القوى السفلى والخاضعة، في نسق هذه القوى يدخل الوعي والذاكرة والعادة، والتغذية والإنجاب والمحافظة والتكيف والامتثال، كل هذه وظائف ارتكاسية وهذا ما كان يسميه فرويد "بالعطالة". والعطالة هي بعكس الطاقة الديناميكية في الحياة العضوية والنفسية، التي تؤلف كمية الاستثارة أو التوتر المؤلم الذي يلح في طلب الإشباع، أي تفريغ شحنة الطاقة وارتخاء التوتر وتلكم هي اللذة في رأي فرويد. فاللذة أو السعادة عند فرويد ليست حالة إيجابية بل حالة ارتكاسية سلبية، إنها حالة انتفاء الألم والتنبيه أو الإثارة أو التوتر، ويميز فرويد بين قوى دافعة وقوى ضابطة؛ الشحنات ومضادات الشحنات. لكن ما هي القوى الفاعلة يا ترى؟
   إن نيتشه يرى أنه من الصعب تعيين هذه القوى الفاعلة، لأنها بطبيعتها تفلت من نطاق الوعي "إن الفاعلية الأساسية لا واعية" ويعبر الوعي فقط عن علاقة بعض القوى الارتكاسية بالقوى الفاعلة التي تهيمن عليها. ولذلك فنحن لا نعرف ماذا يستطيعه الجسد، ولأية فعالية هو مؤهل، لكن الوعي يرى الجسد من وجهة نظره ويفهمه بطريقته، أي بطريقة ارتكاسية.. ويرى جيل دولوز أن القضية الأساسية عند نيتشه هي اكتشاف القوى الفاعلة التي بدونها لا تصير الارتكاسات ذات قوة، ولما كانت فعالية القوى بالضرورة لا واعية، ينتهي نيتشه إلى الإقرار بأن الجسد أسمى من كل الارتكاسات، ولا سيما ارتكاسات الأنا التي تسمى وعيًا "كل هذه الظاهرة الجسدية هي من الناحية الفكرية أسمى من وعينا ومن روحنا من الطرق كل الظاهرة الواعية لدينا؛ تفكيرًا وإحساسًا ومشيئة مثلما هو علم الجبر أسمى من جدول الضرب.
   إن قوى الجسد الفاعلة هي ما يجعل الجسد ذاتًا، وما يحدد الذات كشيء رفيع ومفاجئ كائن أكثر نفوذًا، حكيم مجهول، له اسم الذات يسكن جسدك، إنه جسدك. ما هو الفاعل؟ يجيب نيتشه " البحث عن المقدرة التملك السيطرة الإخضاع الهيمنة. هذه هي صفات القوى الفاعلة. إن القدرة على الفعل والمبادرة والديناميكية والتحويل والتبديل أي قوة سلطة. "الديونيزيوسية" هي التعريف الأول للفاعلية وتفوقها على رد الفعل الارتكاسي، لكن رد الفعل يتعين بعده نوع من القوى مثلما يتعين الفعل. ولا يمكن فهم الارتكاسات علميًا كقوى إذا لم نربطها بالقوى العليا التي هي بالتحديد من نوع آخر".
هكذا إذن نكتشف كم هو الجسد، هذا الذي نظن أننا نعرفه، شديد التعقيد والغموض، ومع ذلك فقد وضعنا يدنا على بداية الخيط حينما حددنا الجسد بأنه علاقة قوى ارتكاسية وفاعلة، مطيعة وآمرة، فعل ورد فعل، عطالة وتجديد، تغير وثبات، توتر وهدوء، حركة وسكون، قلق واطمئنان، خضوع ورفض وقناعة واستكانة وامتثال وتمرد، وطموح وشجاعة واختلاف، رتابة وجمود، وصيرورة وتغيير نزوع إلى اللذة والسعادة، ونزوع إلى القوة والتفوق.
   إن فكرة نيتشه عن علاقة القوى الفاعلة والارتكاسية تلك الفكرة الفلسفية الخطيرة التي أراد بها فهم وتفسير العلاقة المعقدة التي تربط الجسد بالوعي بعدها علاقات قوة هي الأطروحة الجوهرية أو العبارة الابستمية، التي شكلت فيما بعد للفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو المنطلق الفكري لنظريته الجديدة في (السلطة والمعرفة) التي أطاحت بمعظم التمثلات السابقة في هذا الشأن، بل واكتسبت رواجًا منقطع النظير في فضاء الفكر المعاصر، وهذا ما أكده المفكر العربي الفلسطيني ادوارد سعيد في مستهل كتابه الشهير(الاستشراق) الذي اعترف فيه بأن الفضل يعود لميشيل فوكو في فض استشكال علاقات الهيمنة بكل صورها وأنماطها؛ إذ تقوم خلاصة فكرة السلطة والمعرفة عند فوكو، على أنه لا شيء تحت الستار، وأن كل ما يفكر أو يقال في لحظة ما هو نتاج قوة سلطة، وكل سلطة تنتج المعرفة التي تبررها وتشرعنها، ولا معرفة بدون سلطة أو قوة ممكنة، و(السلطة هي التي تقول دون أن تتكلم!) كما كان فوكو يؤكد دائمًا، بأن كل سلطة، بما في ذلك سلطة المعرفة، هي علاقات قوى يمكن الكشف عنها في عالم الممارسة والخطاب، وهكذا ينتهي فوكو في جعله لسلطة علاقات قوى إلى أن القوة لا تريد إلى ذاتها ولا تعرف إلا ما صنعته بذاتها ومن أجل ذاتها، وبهذا يمكننا التأكيد إن السلطة عند فوكو هي حقل قوي كما هو الجسد عند نيتشه تمامًا.
   هذا هو فحوى الفكرة التي استلهمها فوكو من نيتشه. والأمر كذلك يحسن بنا التوقف عند تحديد نيتشه للقوى وعلاقاتها وذلك على النحو الآتي: أشار نيتشه إلى أنه يمكن تحديد القوى الارتكاسية بالآتي: 1-قوة نفعية، قوة للتكيف وللتحديد الجزئي. 2-قوة تفصل القوة الفاعلة عما تستطيعه، وتنفي القوة الفاعلة "انتصار الضعفاء أو العبيد وفي موازاة تلك القوة الفاعلة هي: أ- قوة لدنة مسيطرة وقامعة. ب -قوة تذهب إلى آخر ما تستطيع. ج-قوة تؤكد اختلافها، وتجعل منه مادة للتمتع والتأكيد.
   وقد ذهب سبينوازا إلى " أن كل كمية من القوى يقابلها قدرة على التأثر، إذ يملك جسم معين مزيدًا من القوة بمقدار ما يقدر أن يتأثر بأكبر عدد من الأشكال، هذه القدرة هي مقياس قوة جسم معين أو أنها هي التي تعبر عن فاعليته". لكن لقدرة على التأثير لا تعني بالضرورة تأثرية، بل انفعالية سرعة تأثر، إحساسه، وهذا جعل نيتشه يلح على " أن الإرادة الفاعلة ليست كينونة ولا صيرورة، إنها الكلام المؤثر، قدرة الذات الواعية على رؤية الأشياء التي تراها في حقيقتها لا رؤية ما يماثلها".
   وفي ذات السياق يذهب دولوز إلى "أن قوة ما وتأثيرها هي فاعلة في حدود ما تمتلك القوة ما يقاومها، في حدود ما تكون مطاعة من قوة أدنى منها، وعلى العكس فهي مخضعة، أو بالأحرى منفعلة، حين تكون القوى متأثرة بقوى أعلى منها وتقدم لها الطاعة.
   في هذه العجالة يمكننا الإشارة إلى أن خطاب الجسد أخذ يحظى باهتمام مضطرد منذ بضع سنوات في الوسائط الإعلامية العربية المرئية والسمعية والورقية، إلا أنه ما زال محاطًا بالكثير من التشوش وسوء الفهم والغموض، ومعظم النقاشات والكتابات التي تناولته في الثقافة العربية الإسلامية لم تستطع حتى الآن استشكاله من زاوية نظر فكرية منهجية نقدية ممكنة من شأنها تقديم معارف ومعلومات مفيدة حول هذه الظاهرة التي نسميها الجسد، فكل ما فعلته هي أنها أثارت الإشكالية وحومت حولها ولم تستطع الذهاب إلى أبعد من ذلك، وحسبنا هنا أن نورد خلاصة ما جاء في مقال "الجسد مرتكز العالم" لكاتب عربي لا يحضرني اسمه للأسف الشديد إذ أشار إلى أن علاقة الإنسان بجسده تتحدد في الخصائص التالية:
1- إهمال الجسد أو تهميشه لحساب ما يسمى العقل.
2-احتقار الجسد أو ازدراؤه لحساب ما يسمى الروح.
3-استعمال الجسد منفصلًا عن الذات وكرامتها، كأداة للذة أو للزينة أو للتسويق أو للدعاية أو للتنافس.
4-اعتبار الجسد سلعة ينبغي الاهتمام بزيادة عمرها الافتراضي.
   ختامًا نعيد التساؤل: ما هو الجسد ماذا نعرف عن جسدنا، وما علاقة الجسد بالاسم، وكيف نفهم العلاقة بين الجسد والوعي؟ وهناك الكثير من الأسئلة المتصلة المتعطشة للفهم والمعرفة، ومهما حاولنا التفكير في خطاب الجسد ومشتقاته فمازال أمره ملغزًا ومحاطًا بالجهل والضلال لا سيما في ثقافتنا العربية الإسلامية ـ التي مازالت أسيرة النظرة اللاهوتية للجسد المخلوق من التراب والعائد إلى التراب، ثقافة تتصرف بثقة وكأنما لم يكن الجسد يعنيها، ومن ثم لم تحاول التفكير فيه في أي وقت من الأوقات، فما زال الجسد في اللغة العربية يدل على الجثة، التي تستدعي الإسراع في دفنها خشية التعفن! ولم نصل بعد إلى الفكرة التي ترى أن أهمية فهم الجسد تكمن في كونها المفتاح الضروري لفهم الذات، لفهم الأنا، لفهم الإنسان نفسه اعرف نفسك.
   أخيرًا يمكن القول: ليس الجسم حيوانًا سليمًا متعافيًا، بل هو خصب وخلاق بشكل أكبر مما تتخيل أذهاننا، إنه ذلك المكان من الكون أو الطاقة الخلاقة في الذات الذي يكون على تماس مع المادة والروح المطلقة، وأننا نشارك بجسمنا دفقة الحياة منذ أول ظهور لها على الأرض، وأن هذه الحياة التي تنبض في أجسادنا تتحول دون انقطاع إلى ملايين السنين عبر تطور كلي لا تفقد فيه حلقة واحدة من هذه السلسلة غير النهائية. وعقلنا ذاته ليس سوى أحد وظائف الجسم المتنوعة وهو أداة كغيره لا يكون له معنى أو عمل ما لم يكن جزءًا متكاملًا مع الجسم الحي ـ الذي هو عبارة عن علاقات القوى الفاعلة والارتكاسية المتبادلة التأثير والتأثر.



[*] أستاذ فلسفة التاريخ والحضارة ـ جامعة عدن.

د. قاسم المحبشي يكتب: حينما يكون الجسد أكثر إدهاشًا من الروح د. قاسم المحبشي يكتب: حينما يكون الجسد أكثر إدهاشًا من الروح Reviewed by Union of Arab Philosophers on 10:37 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

عن مؤسس المدونة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

انضم إلي صفحتنا عبر الفيس بوك

https://www.facebook.com/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-729058127473555/?modal=admin_todo_tour

اخر المواضيع

اعلان 728x90

يتم التشغيل بواسطة Blogger.