اتحاد الفلاسفة العرب

مشروع حضاري فكري تنويري، يهدف إلى جمع فلاسفة ومتفلسفة العالم العربي من المحيط إلى الخليج؛ لأجل تحويل الخطاب الفلسفي إلى خطاب عقلنة مجتمعاتنا التي تأخرت قرونًا عن ركب الحضارة..

د. رضا خلاف تكتب: عندما هجرت العصافير نافذته


عندما هجرت العصافير نافذته
بقلم الدكتورة / رضا خلاف[*]

   مع الشروق الباكر لصباح يوم الجمعة، أسابق ضوء الشمس وأنا في طريقي إلي أستاذي الحبيب، وبمجرد وصولي للأعالي التي يسكنها فوق هضبة المقطم، وعند اقترابي من منزله تتسلل إلي أذني أصوات حشد من العصافير قابعة أسفل شرفة منزله، وقد كنت آراه دومًا وهو ينثر لها الحَبَ والحُبَ معًا، أكثر من عشر سنوات هي عمر معرفتي به، وهي في نفس الوقت تجسيد للرقي في الصداقة والأبوة والوفاء والمحبة.
   قُلتُ أنه إنسان، وأنه الأستاذ الكبير، ولكن كيف لي أن أعرِفهُ لغيري؟ وهو الذي لا يسعه قلب ولا يصفه اسم، إنه المعروف في دنيانا بين الأكاديميين والصحفيين والأدباء والشعراء وغيرهم بـ "مجاهد عبد المنعم مجاهد"، فكثير ما نري أجسادًا يعجبنا شكلها، ونحاور عقولًا يبهرنا ذكائها وحصافتها، ولكن مملكة الروح تظل الأعلى والأرقي والأبعد عن اهتمامات دنيا البشر حتى ولو أردنا بلوغها، فكيف السبيل إليها؟ ليس من المبالغة في القول إن قلت أن "مجاهد عبد المنعم مجاهد" هو أحد القلائل ممن يمكن تسميتهم بخزنة وحملة مفاتيح مملكة الروح، يفتحها لمن يتوسم فيه رغبته في الارتقاء، ليتجول في حدائق هذه المملكة وينهل من ثمارها، ويعلو فوق محدودية منطق العقل، وفوضى الوجود الحسي.
    يحضرني دائمًا سرده علي مسمعي لذكرياته الجميلة، حياته التي سادتها المحبة من الطفولة إلي الكهولة، فهو الابن البكري لأبٍ جمع بين الثقافة ومهنة التدريس والعمل بالسياسة، وأم حنون، وجده عن أمه ذلك الوجيه الثري ناثر السعادة علي كل من حوله، حبه للمعرفة والاطلاع منذ طفولته المبكرة، واختلاف ميوله واهتماماته عن أقرانه من الأطفال الآخرين، تفوقه الدراسي ونجابته ثم التحاقه بقسم الفلسفة بكلية الآداب جامعة القاهرة في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، أساتذته من القامات الخالدة وعلي رأسهم "طه حسين"، زوجته الوفية نيرة العقل والقلب، أبناء وأحفاد، رفقاء الدرب من أكاديميين وصحفيين وأدباء وشعراء ومثقفين وفنانين ورئيس دولة عربية يوم أن كان يتعلم في مصر قبل توليه الحكم (صدام حسين)، عمله بالصحافة والتدريس في أكثر من جامعة مصرية، وكونه صاحب الغرس الأول لعلم الجمال في ميدان الدراسة الأكاديمية بالجامعات المصرية، فكل كبار الأساتذة في هذا التخصص قد استلهموا خطواتهم الأولي علي ضوء نور عقله ومكتبته التي تحوي أمهات الكتب من مصادر ومراجع ودوريات وقواميس محلية وعالمية، إلي جانب مؤلفاته وترجماته المتنوعة بين الشعر والفلسفة والنقد الأدبي، قائمة طويلة من الإنتاج الفكري يصعب أن تُنسَبَ إلي حياة شخص واحد، لكنه ليس أي شخص، إنه "مجاهد عبد المنعم مجاهد".
   وذكرياته الكثيرة عنوانها الرئيسي "حياة عامرة بالحب والحكمة والارتقاء".
رافقته كثيرًا في زياراته لدور النشر والمكتبات، وحي الحسين بالقاهرة؛ ليشتري ملابس الإحرام لعمرته السنوية الدورية لبيت الله الحرام، وتصدقه علي كثيرين بالمال أحيانًا وبالعلم والحكمة أحيانًا أخري، لا أنسي يوم أن قُلتُ له إن أجمل ما في الدنيا الزهور، وكان رده أن الأجمل منها الإنسان .
   لقد قدر لي بعد أن غيب الموت أبي الحبيب أن يرزقني الله بأبٍ أخر أورثني - وهو ما يزال بيننا في دنيا البشر ـ حكمته وخبرته وعلمه ومكتبته، واصطفاني علي كل تلاميذه وطلابه، فجعلني تلميذته الأولي وابنته الحبيبة ووريثته الأولي في ميدان الفلسفة الرحيب، وأنا الآن مدينة له بكل ما يمكنني تقديمه له من الرعاية والاهتمام، فمن يغرس بذور المحبة والتواضع في حياة الضعفاء أثناء قوته وقدرته علي العطاء؛ يحصد ثمار الحب والرعاية والعرفان بالجميل في ضعفه واحتياجه، إنها سنن الله الباقية حتي زوال الوجود .
   عند البدايات الأولي لمعرفتي به، وبعد انتهائي من إعداد رسالتي لنيل درجة الماجستير، وبذله لمجهود كبير في مراجعة الرسالة لتكون أدق وأفضل نموذج ممكن لرسالة علمية تتم مناقشتها، وتحصل صاحبتها علي أعلي تقدير، أتذكره وهو يفاجئني بعرضه لمنحي مبلغ من المال لكتابة الرسالة وطباعتها، خاطبني عقلي ساعتها متسائلًا: أكان سارتر ليغير مقولته "الجحيم هو الآخر" لو أنه عرف هذا الرجل؟
   في مقامي هذا ينساب مداد القلم ليصور بكلمات موجزة الإنسان "مجاهد عبد المنعم مجاهد"، ولو أردت أن أتحدث عنه كفيلسوف وشاعر، ربما احتجت ساعتها لرسالة أو بحث علمي قد يستغرق إعداده سنوات، أتذكر دوماً قوله لي: أنه عندما ترسل إليه دار النشر نسخة جديدة لكتابٍ جديدٍ من مؤلفاته أو ترجماته، يشعر وكأنه وهب وليد جديد، وكيف لا؟ والكتب النافعة أكثر وأطول عمرًا من بني البشر، أخبرني أستاذي أن الحب هو الرعاية والعطاء مع الرضي، وأن الفن هو رؤيتنا لما لا يري، وأن الفلسفة هي القدرة علي إيجاد المفقود، وفقد الموجود، وأن الشعر قارب يسير بدفتي العقل والعاطفة، وأن الله قد أخبرنا بثلاثة مجهولات لم ولن يتمكن العقل البشري من معرفة حقيقتها الكاملة في عالمنا الأرضي وهي (الآخرة ـ الزمن ـ الموت).
   لقد استطاع مجاهد عبد المنعم مجاهد مزج الحياة بشغفه وحكمته وصدقه وإخلاصه، رسمها في صفحات ديوانه أقمار علي شجرة العائلة تجارب إنسانية تنبض بالحياة، تحمل إهداءات للعديد من الشخصيات ممن لهم بصمة في حياته، وله هو بصمات في حياتهم .
   حقيقة لا يمكنني اختصار الشمس في شعاع ضوء، ولا البحر في قطرة من رذاذ الماء يقذفها الموج علي وجوهنا، ولكنني أستطيع اختصار الإنسانية في شخص وكيان "مجاهد عبد المنعم مجاهد"، ذلك العملاق والمفكر الموسوعي في ميادين الفلسفة والشعر والترجمة والنقد الأدبي، إنه شجرة وارفة الظلال استظل وسيستظل بها العديد من المثقفين والباحثين في الفلسفة والفنون والآداب .
   وكلمتي الأخيرة: ألم يأن للقائمين علي شأن وزارة الثقافة المصرية والمسئولين عن البحث العلمي بالجامعات المصرية أن يقدروا بحق ذلك العقل الذي لم ينقطع عن المجاهدة والبحث والإنتاج الفكري المميز على الرغم من بلوغه العقد التاسع من العمر، لمن تذهب جوائز الدولة التقديرية في الفلسفة والآداب؟ من ممن يتصدرون الساحة الثقافية بأجسادهم أكثر من عقولهم ويحتلون مقاعد إعلام الربح الموجه تطاول قامته قامة الأستاذ الكبير "مجاهد عبد المنعم مجاهد"؟ فيا من تدعون رغبتكم بل وحرصكم علي إنشاء دولة جديدة، وخلق حضارة تليق بشعب لم يعد يمتلك إلا التاريخ، برهنوا لشعوبكم أنكم جديرين بالسلطة والسيادة، قدروا قامات هي بمثابة ثروات مصرية مهدرة.. إن "مجاهد عبد المنعم مجاهد" هو ثروة قومية وقيمة وقامة مصرية خالدة نتغافل عنها ونحن في أشد الاحتياج إليها؛ أكثر من احتياجه هو للتكريم بالجوائز والقلادات التي فقدت قيمتها بتخصيصها وذهابها للكثير من الأقزام وأشباه وأنصاف المفكرين، إلا من رحم ربي وهم قلة .
   أبي وأستاذي ومعلمي الجليل الحبيب، يكفيك حب صادق منزه من كل غرض في قلوب صادقة لم يغشاها زيف وعبث واقعنا المرير.. حتمًا يومًا ما في عالمنا أو عالم آخر ستوضع الموازين الحق، وستعود العصافير إلي شرفة النافذة.


[*] مدرس علم الجمال وفلسفة الفن بقسم الفلسفة - كلية الآداب - جامعة المنوفية

د. رضا خلاف تكتب: عندما هجرت العصافير نافذته د. رضا خلاف تكتب: عندما هجرت العصافير نافذته Reviewed by Union of Arab Philosophers on 9:30 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

عن مؤسس المدونة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

انضم إلي صفحتنا عبر الفيس بوك

https://www.facebook.com/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-729058127473555/?modal=admin_todo_tour

اخر المواضيع

اعلان 728x90

يتم التشغيل بواسطة Blogger.