ذهب ابن خلدون (1332ـ 1406م)، في مقدمة كتابه (العبر وديوان المبتدأ والخبر) إلى نقد الفلسفة، بل
ودعا إلى إبطالها، ولكن ما هي الأسباب التي أدّت به إلى الدعوة لإبطال الفلسفة؟،
ثم ما هي نتائج ذلك؟.
نشأ ابن خلدون في بيت عريق
في العلم والأدب والسياسة، وأخذ علمه (علم المنطق، العلم الطبيعي، العلم الإلهي،
علم المقادير، علم العدد، علم الموسيقى، وعلم الهيئة) على الشيخ أبي عبد الله محمد
بن إبراهيم الآبلي (ت: 757هـ)، الذي كان ينزع نزعة عقلية حرّة، برغم غلبة الفكر
المحافظ وقتذاك، واتّهام كلّ مَن يشتغل بالفلسفة، بالزيغ عن الدين، والفساد في
الاعتقاد.
ولم يقض ابن خلدون في دراسة
العلوم الفلسفية ـ على الآبلي ـ سوى سنتين أو أكثر، وهي فترة غير كافية لتأهيله في
تلك العلوم الصعبة والمُتشعّبة، ولكن هذا الانقطاع لم يمنعه من توسيع ثقافته في
شتى العلوم والمعارف، عبر اتصاله بالأوساط الثقافية الكبرى. وهنا، ربما يكون
التشكيك في التكوين الفلسفي لابن خلدون، لا يستند إلى دليل قاطع، وما كتبه ابن
خلدون، في مقدمته، عن العلوم العقلية، وأصنافها، لدليل على ثقافته الفلسفية
الواسعة التي كان يتمتّع بها.
إنّ الأسباب التي دفعت ابن
خلدون إلى إبطال الفلسفة يمكن استقراؤها من الفصل الذي كتبه في هذا الغرض، إلى
جانب الفصول التي لها صلة مباشرة به (كعلم الكلام)، و (أصناف العلوم)، و (العلوم
العقلية)، و (المنطق)، و (التصوف).
اتخذ ابن خلدون موقفًا
مُعاديًا للفلسفة؛ نظرًا لما تُلحقه بالدين من ضرر، فهي تعتمد في إدراكها لما وراء
الحس، أي (العلم الإلهي)، على العقل دون سواه، ومن ثم، فهي لا تعترف بالوحي.
ولذلك، أبطل ابن خلدون شبهات مُنتحليها كالفارابي، وابن سينا. كما ركّز على مواطن
الخلاف بينها وبين الدين، لا سيما في مسألتي العلم الإلهي، ووسيلة إدراكه (العقل
المجرد). ولكن، هل الغيرة على الدين ـ وحدها؛ هي ما دفعت ابن خلدون إلى معاداة
الفلسفة، وإبطالها؟!.
يرى محمد أركون أنّ الجانب
الأيديولوجي في فكر ابن خلدون، والمُتمثّل في تأييده لنظرية الدولة الإسلامية في
الحكم، وللشريعة الإسلامية في تسيير المجتمع، وانحيازه إلى المذهب المالكي،
واعتناقه للمذهب الأشعري، قد دفعه إلى اتخاذ موقف ضدّ سائر المذاهب المشهورة في
الفكر الإسلامي.
وبرغم أهمية التفسير
الأيديولوجي الذي قدمه أركون، إلا أنّه لا يمكن اعتباره الدافع الوحيد لنقد ابن
خلدون للفلسفة. فقد ذهب محمد الطالبي في كتابه (ليطمئن قلبي) إلى أنّ إبطال ابن
خلدون للفلسفة يرجع إلى سببين هما، أولًا: جمود الفلسفة، وتحجّرها، وغلبة الأوهام عليها
في عصره، لا من باب المعاداة. ثانيًا: أنّ الفلسفة ليست من العلوم الصحيحة التي
تثبُت أمام التجربة، فكان من الضروري إبطالها.
والسبب الثاني الذي ذكره
الطالبي، هو نتيجة لما توصّل إليه ابن خلدون أثناء مُعالجته لقضية الصراع بين
الدين والفلسفة، إذ لم يكتف ابن خلدون بالتهديم فقط، وإنّما أوجد البديل، وهو
تحويل وجهة الفكر الإنساني عامة، والإسلامي خاصة، من البحث في عالم ما وراء الحسّ،
وأداته النظر المُجرّد، إلى البحث في عالم الحسّ، ووسيلته الملاحظة والتجربة.
ومن جهة أخرى، يُضيف علي
الوردي عاملًا مهمًا أسهم في تشكيل موقف ابن خلدون من الفلسفة، يتمثّل في خوفه من
"تُهمة" الفلسفة، وهذه التهمة كان لها عواقب وخيمة في أيامه، من بينها
الاتهام بالزندقة والحكم بالنفي...
لقد نقد ابن خلدون العديد
من القضايا الفلسفية، وأثبت بُطلانها، ومن أهمها: إنّ المصدر الوحيد عند الفلاسفة
في تقرير العقائد الإيمانية، هو العقل؛ واعتدادهم بالبراهين المنطقية؛ واعتبروا
أنّ السعادة هي إدراك الوجود بالنظر والبرهان؛ كما أنّهم أكّدوا استقلالية الإنسان
بتهذيب نفسه؛ أضف إلى ذلك اعتقادهم ببعض الأوهام والخرافات، وذلك من خلال قولهم
بأنّ للفلك نفسًا كالإنسان، وقولهم بالعقل الفعّال، والعقول العشرة.
مما سبق، نقول: إنّ ابن
خلدون، وإن أبطل الفلسفة، ونسف الميتافيزيقا وأداتها (العقل المُجرّد)، إلا أنّه
لم يسلب العقل جميع قدراته، وإنّما قيّد سلطته، وحدّ حدوده فيما وراء الطبيعة،
وأطلق له العنان في الطبيعة، كما أنّه لم يشكّ في الحواس، ولم يُفقدها دورها
الأساسي في المعرفة، وكلّ ذلك من أجل مشروعه الجديد ـ علم العمران البشري،
والاجتماع الإنساني، الذي يعتمد على التجربة، ودقّة المُلاحظة.
إنّ نقد ابن خلدون للفلسفة،
وتقويض أسسها، لم يكن ترفًا عقليًّا بدون غاية أو هدف، وإنّما كان يهدف إلى حماية
الدين من جهة، وإلى تأسيس مشروع بديل عن الفلسفة التقليدية من جهة أخرى، يتمثّل في
إيجاد مجال معرفي موضوعه: الظاهرات الاجتماعية والحضارية، وغايته: إصلاح الحياة
الاجتماعية والسياسية.
وقد أفرزت معاداة ابن خلدون
ـ وسابقيه ـ للفلسفة وإبطالها، العديد من الجوانب السلبية، منها: إهمال العلوم،
وصرف الناس عن الاشتغال بها؛ وانحسار العقل وتهميشه، وجعله تابعًا بعد أن كان
قائدًا، ما أدى إلى جمود الفكر الإسلامي وتحجّره، وتقوقعه في إطار مذهبي معين؛
وفشل محاولات التوفيق بين الدين والفلسفة، ما أدى إلى اضطهاد السلطة، والعامة،
لكلّ مُفكّر حُرّ؛ ناهيك عن انتشار التصوّف في العالم الإسلامي، ليدخل في سبات
عميق.
لقد لعبت الفلسفة دورًا
حاسمًا في النهضة الأوربية، وشكّلت القطب الذي تدور حوله التيارات السياسية
والاقتصادية والاجتماعية، ولذلك، فإنّ الانزواء عن الفلسفة، وتجاهل دورها في
حياتنا الفكرية، اقتداءً بالسلف، يُعدُّ هروبًا من الواقع، وفشل في إدراك القوانين
الاجتماعية في النهضة والسقوط..
مراجع المقال:
- ابن خلدون، المقدمة، تحقيق/ أبي عبد الرحمن عادل بن سعد، الدار الذهبية للطبع والنشر
والتوزيع، القاهرة، 2006م.
- محمد الطالبي، ليطمئن قلبي، سراس للنشر، تونس، 2007م.
- محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، المركز الثقافي العربي،
الدار البيضاء، المغرب، 1986م.
محمد عرفات حجازي يكتب: ابن خلدون وتشويه سمعة الفلسفة
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
2:30 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: