صفاء عبد
السلام فرحات[*]
الأول
من أكتوبر في كل عام هو اليوم العالمي للمسنين، وضعته الأمم المتحدة في محاولة
منها لتنبيه العالم إلى حق المسنين في حياة كريمة بعد كل الذي قدموه طيلة أعوام
طويلة من جهد وعمل.
وفي
هذه المناسبة تذكرت زيارتي الترفيهية للسيرك والتي لم تكن ترفيهية على الإطلاق لما
وجدت من محاولات بائسة للبهلوان العجوز لإدخال البهجة والسعادة على الجمهور.
إن
فلسفة السعادة عند البهلوان على مر العصور تتبلور في القيام بعمل إيماءات وحركات
في لغة غير عادية للجسد إضافة إلى ما يرتدي من ملابس محاكة بطريقة مثيرة للبهجة ذات
ألون ملفتة للنظر، وما يرسم على وجهه من ألوان تجعل من شكله المتميز باعثًا على
تقبل الجمهور لما يقدمه له من أشكال السعادة خاصة أنه يرسم فمه دائما على شكل شفاه
مبتسمة ابتسامة عريضة.
هذه الحركات والملابس والألوان هي أدوات اختارها
البهلوان بعناية لنشر السعادة وقد توارثتها البهلوانات من بعده جنبًا إلى جنب مع
توارث الجمهور للشعور بالبهجة عند رؤية البهلوان.
إلا
أن هذه الأدوات والتي اتخذ منها البهلوان مصدرًا للدخل طوال حياته على مر السنين،
باذلًا من الجهد والنشاط كل ما أوتي من قوة، وقفت عاجزة أمام مرور الزمن وظهور وهنه
وعجزه الذي أظهره الشيب على ملامحه وعلى حركاته وهو ما لا يستطيع إخفاءه مهما حاول
أن يقدم من أدوات السعادة لديه..
كان هذا هو واقع البهلوان العجوز في السيرك حيث
أنه اتخد من "البهلوانية" وظيفة روتينية ضمن بها دخلًا شهريًا ثابتًا - أيًا
كان حجمه - وقد تغافل هو والقائمون على الأمر أن تبعات الزمن لا يمكن لها أن تخضع
لهذا الروتين الوظيفي، وأن أدوات السعادة التي يستخدمها البهلوان افتقدت لعنصر مهم
جدًا لا يعرفه ذلك الروتين، هذا العنصر هو أساس لتوصيل الشعور بالسعادة للآخر؛ ألا
وهو التواصل الوجداني بين البهلوان والجمهور؛ فالبهلوان ليس آلة صماء لا تنضب إمكانياتها
حتى تصل لسن التقاعد.
وعلى
جانب آخر داخل أقفاص صالة العرض بالسيرك هناك بهلوان من نوع آخر يقوم بعمل نفس
الحركات البهلوانية ولكن بطريقة أخرى.. لكنه هذه المرة ليس لديه فلسفة لإسعاد
الجمهور إن هدفه الوحيد هنا هو الحصول على رضا المدرب حتى يلقي إليه ببعض الفتات..
إنه الأسد العجوز أيضًا أو هو النمر الذي قام الروتين الوظيفي بتخديره حتى يستطيع
المدرب التعامل معه دون الوقوع في أية أخطار.
وإن
كنت أتساءل: أليس من حق هذا البهلوان العجوز الآن أن يجلس بين جنبات المتفرجين ليس
أن يقف أمامهم؟!.. أليس من واجب الروتين إعطائه وظيفة وراء الكواليس داخل السيرك
وليس على المسرح؟!
أليس من حق هذا الحيوان الأسير أن يسعد بما
تبقى له من حياة ويعيش حياة شبه طبيعية في حديقة الحيوان مثلًا؟!
وإن كنت لا أخص البهلوان فقط
بحديثي هذا وإنما أشمل أيضًا كل من هم على شاكلته من المسنين في كل مواقع الحياة. أليس
من حق كل مسن أن يحصل على حياة كريمة تحفظ له شيبته، لقد طالت الماديات احترامنا
للكبير ليس على المستوى العام فقط وإنما على المستوى الشخصي؛ فانتشرت دور المسنين في
بلداننا على نطاق واسع وسط تجاهل تام من الأبناء لآبائهم الذين بذلوا من الجهد
والعمر ما لم يبذله غيرهم لرعايتهم وتربيتهم، لدرجة أن بعض الأبناء يعتبر أبويه قد
فارقا الحياة في نفس اللحظة التي يلقى بهما في دار المسنين بل ويعلن ذلك على
الملأ.. ومتجاهلًا أيضًا أن من لا يَرحم لا يُرحم.
صفاء عبد السلام فرحات تكتب: البهلوان العجوز
Reviewed by Union of Arab Philosophers
on
12:03 م
Rating:
ليست هناك تعليقات: