اتحاد الفلاسفة العرب

مشروع حضاري فكري تنويري، يهدف إلى جمع فلاسفة ومتفلسفة العالم العربي من المحيط إلى الخليج؛ لأجل تحويل الخطاب الفلسفي إلى خطاب عقلنة مجتمعاتنا التي تأخرت قرونًا عن ركب الحضارة..

محمد عرفات حجازي يكتب: دلالات موت الله عند نيتشه





   ذهب الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (1844ـ 1900م) إلى أنّ الحياة فقدت قِيمتها عندما تخلّينا عن أخلاق البطولة، وأخذنا بمبادئ المساواة التي تكفر بعظماء الرجال. ولذلك، يبحث نيتشه عن نموذج بشريّ جديد، ما دام التاريخ قد أوصل إلينا نماذج مُشوّهة ومريضة. وقد بشّر بمجيء الإنسان الأعلى ـ الذي هو ذروة هدفه الفلسفيّ؛ وظهر حين أعلن: موْت الإله..
   يقول نيتشه: وصادف زرادشت وهو يهبط إلى أسفل الجبل شيخًا ناسكًا أخذ يحدّثه عن الله، فتعجّب زرادشت في نفسه كيف أنّ الناسك لم يسمع وهو في غابته أنّ الله قد مات وماتت معه جميع الآلهة، وبعد أنْ يؤكّد زرادشت موت الإله يُعلن عن مولد الإله الجديد، ذلك السوبر مان الذي يتفوّق على العاديين مِن البشر..
   ولكن، هل أراد نيتشه القول: أنّ الله غير موجود، ولم يكن في أيّ وقت من الأوقات موجودًا، أم أنّه يعني أنّ الله موجود ولكن المسيحين أساءوا فهمه بطريقة بشعة، ومن ثمّ، فإنّ القول بموت الله هو رفض لهذه المفاهيم الخاطئة؟. هل يريد نيتشه مُهاجمة فكرة الألوهية كفكرة، أم أنّه يريد أن يهاجمها كما وردت في الحضارة الغربية؟.
   لقد تعدّدت آراء الباحثين وتنوّعت حول تفسير مقولة "موْت الله"، والوقوف على دلالتها.
   يُلقي الكاتبان توماس التيزر وويليم هاملتون ـ في كتابهما "اللاهوت الراديكالي وموت الله" الصادر عام 1966م ـ الضوء على غموض القول بموت الله، فيذهبان إلى أنّ هذه العبارة الغامضة قد تحتمل عشرة تفسيرات مختلفة تتراوح بين الإلحاد والأصولية الدينية واللاهوتية؛ إذ يمكن تفسيرها على أيّ نحو من الأنحاء التالية:
1-إنّ الله غير موجود ولم يكن له وجود مطلقًا.
2- أنّه كان يوجد إله جدير بالعبادة والمديح والفقه، ولكن هذا الإله غير موجود الآن.
3- إنّ فكرة الله وكلمة الله نفسها في حاجة إلى إعادة صياغة كاملة.
4- إنّ اللغة التي نستخدمها في الطقوس واللاهوت تحتاج إلى تغيير شامل.
5- إنّ المسيحية لم يعد لها القدرة على خلاص البشر وشفائهم.
6- إنّ بعض المفاهيم المُعيّنة عن الله والتي كانت قائمة في الماضي، غالبًا ما تختلط بالمفهوم المسيحي الكلاسيكي عن الله..
7- إنّ الناس في يومنا الراهن يشعرون بأنّ الله صامت ومختفٍ وغائب عنهم.
8- إنّ الآلهة التي تصنعها أفكار البشر وأفعالهم (وهي آلهة زائفة أو مجرّد أصنام) يجب أن تموت دومًا حتى تتّضح صورة الله الحقّ.
9- إنّ هناك معنى تصوّفيًّا في المقولة مفاده أنّ الله يجب أن يموت في العالم حتى يمكن ولادته فينا.
10- إنّ اللغة التي نستخدمها عن الله قاصرة وغير سليمة على الدوام.
   وذهب الباحث هوارد بيركل في كتابه "لا وجود الله" (1969م) إلى أنّ نيتشه ـ شأنه شأن هيجل في ذلك ـ لا يرى الله كقوة مُنفصلة فوق الإنسان، ولكن كتعبير عن قدرات الإنسان الخلاقة المُمتدّة بلا حدود. ويُضيف أنّ القائلين بموت الله يرون عجز الإنسان عن الوصول إلى أية معرفة يقينية فيما يتعلّق بالموضوعات اللاهوتية التأمّلية. وقد فسّر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر (1905ـ 1980م) قول نيتشه بموت الله، بأنّ نيتشه يريد القول أنّ الله غير موجود، وأنّ على البشر أن يواجهوا وحدتهم وغُربتهم في هذا الكون بشجاعة.
   ويميل وليم هاملتون في كتابه "الجوهر الجديد للمسيحية"، وكذلك غابرييل فاهانيان (1927ـ 2012م) إلى أنّ موت الله: ظاهرة ثقافية فحواها اختفاء أشكال المسيحية من الحضارة الغربية نتيجة الاضمحلال الذي أصاب العقيدة المسيحية، وتحوّلها إلى مُجرّد مُمارسة للطقوس والشعائر الدينية، ونتيجة فُقدان الكنيسة سيطرتها، فتحوّلت الحضارة من حضارة تؤمن بالمقدسات إلى حضارة علمانية تُضفي صفة الخلود على المادة، وأصبحت حضارة علمية بعد أن كانت أسطورية.
   وذهب جيل دولوز (1925ـ 1995م) إلى أنّ معنى مقولة موت الله هي: إنّ الله اليهودي يُميت ابنه لجعله مستقلًّا عن ذاته، وعن الشعب اليهودي. كما أنها قد تعني عنده بأنّ الله يرفع ابنه على الصليب بفعل المحبّة، وأنّنا سوف نردّ على هذه المحبّة بقدر ما سنحسّ بأنفسنا مُذنبين بهذا الموت، وفي ظلّ محبّة الله، والتضحية بابنه، تُصبح الحياة ارتكاسية بكاملها.

   ومن جهتنا، نرى أنّه لما كان الأثر الأكبر الذي خلّفه نيتشه إنّما كان في ميدان الأخلاق، فنُضيف هنا معنى جديدًا لمقولة موت الإله يفيد: انهيار سُلّم القِيم التقليدية، وتأكيد إنسانية الأخلاق، وبمعنى آخر: سقوط نظام المعايير والسلوك القائم على التسليم بِتلك الفكرة، والنتيجة المنطقية لهذا الموت: أن يحلّ الإنسان محلّ الإله، ويضع القِيم بِنفسه، وأن تحلّ الأخلاق محلّ الدين، وتحلّ المنفعة محلّ القيم الإلهية، إلى جانب إلغاء فكرة الحياة الأُخرى، الثواب والعقاب.. إلغاء الغائية، وبالتالي أن تصدر كافة القيم الأخلاقية عن شعور بالقوة، لا عن ضعف أو محبّة أو تسامح من أجل نعيم أخروي كما تُبشّر به المسيحية.
المراجع
1- جيل دولوز، نيتشه والفلسفة، ت/ أسامة الحاج، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1993م.
2- رمسيس عوض، ملحدون محدثون ومعاصرون، دار سينا للنشر، القاهرة، ط1، 1998م.
3- فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، كتاب للكلّ ولا لأحد، ت/ فليكس فارس، دار القلم، بيروت، د. ت.
محمد عرفات حجازي يكتب: دلالات موت الله عند نيتشه محمد عرفات حجازي يكتب: دلالات موت الله عند نيتشه Reviewed by Union of Arab Philosophers on 3:00 م Rating: 5

ليست هناك تعليقات:

عن مؤسس المدونة

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

المتابعون

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

Translate

انضم إلي صفحتنا عبر الفيس بوك

https://www.facebook.com/%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8-729058127473555/?modal=admin_todo_tour

اخر المواضيع

اعلان 728x90

يتم التشغيل بواسطة Blogger.